تقليب مفهوم التعددية في سورية

حسام جزماتي

كثيراً ما نقصد أشياء مختلفة عندما نستخدم الكلمة نفسها، أو لنقل إن كلاً منا يستهدف طابقاً محدداً من تدرج معاني المفهوم يناسب الغرض الذي يرمي إليه، ولا سيما في السياسة التي لا تنفصل عن صراع اللغة حول المصطلحات.

ففي الطابق الأول، الأشد بساطة، يرى بعضهم أن التعددية السورية مكوّنة أساساً من مسلمين ومسيحيين، وهي نظرة مستمدة من نظام الملل الموروث، ومتجددة عند قراءة هذا التنوع التقليدي في أديان رجال الاستقلال الوطني وحكّام البلاد لأقل من عقدين بعده، حين من المألوف يستحضر اسم المسيحي فارس الخوري إلى جانب أسماء المسلمين شكري القوتلي وخالد العظم وناظم القدسي… إلخ.

وقد أدى الصراع العربي الإسرائيلي إلى استثناء اليهود من خارطة النظام الملّي، فضلاً عن قلة عددهم، واقتصار مشاهد اللحمة الوطنية التي أتخمنا بها التلفزيون، في عهد حافظ الأسد، على عناق الشيخ والقس وتلاصق الجامع والكنيسة وتعايش الهلال والصليب.

وعلى الرغم من تقادم هذه النظرة، وتجاهلها لتيارات عميقة جرت في المجتمع، أقلها تناقص أعداد المسيحيين بالهجرة وضعف مشاركتهم العامة؛ إلا أنها ظلت مفضّلة لدى كل من يريد أن يحل المسألة حلاً سهلاً. خاصة وأن للنصارى ركن معتاد في السردية المعروفة للتاريخ الإسلامي.

في أجواء تلك المرحلة المسمومة من التغافل صار مألوفاً أن تؤشر الأحزاب السياسية إلى جماعات أهلية، وإذا كان من المفهوم أن تنحصر جماعة الإخوان المسلمين، مثلاً، بالسنّة فإنه من الطريف أن نلحظ أنّ حزب البعث صار يعدّ، في سنواته الطويلة الأخيرة، “حزبهم“..

لكن ثلاثة أرباع قرن تفصلنا عن استقلال الدولة حملت كثيراً، فبعد أن كان السنّة يمثلون المسلمين إلى درجة التطابق تقريباً، مع خيالات غير دقيقة عن جماعات هامشية لم تنفك عزلتها في الجبال؛ انداح هؤلاء، أي العلويون والدروز والإسماعيليون، إلى المدن بالتدريج، وبكثافة أحياناً، مع تطور وسائل التنقل، وشق الطرق، وانتشار التعليم، وحاجة الدولة الحديثة إلى أعداد كبيرة من الموظفين.

ومن جهة أخرى أدت طباعة الكتب، فتوافر وسائل المعرفة التالية، إلى تبلور انتماء كل جماعة بشكل يرتبط أكثر بتعاليمها الأصلية، أو رفضها “على بيّنة”، وإلى اطّلاع “الأغيار” عليها أخيراً، مما نتج عنه اتخاذ موقف متسامح أو متشدد منها بعدما أتيحت نصوصها الأساسية والردود عليها، ولم يعد الانتماء العمومي إلى الإسلام تعريفاً كافياً.

ومن المعروف أن ذلك لم يحصل، وما يزال، في ظروف سلمية من التعارف غير المتصيّد، بل في ظل صراع طائفي كانت تخفيه، من دون مهارة طبعاً، صور الإعلام الرسمي، وتحرر من عقاله الآن كشيطان خرج من القمقم.

وفي أجواء تلك المرحلة المسمومة من التغافل صار مألوفاً أن تؤشر الأحزاب السياسية إلى جماعات أهلية، وإذا كان من المفهوم أن تنحصر جماعة الإخوان المسلمين، مثلاً، بالسنّة فإنه من الطريف أن نلحظ أنّ حزب البعث صار يعدّ، في سنواته الطويلة الأخيرة، “حزبهم” بما أنه وسيلتهم إلى الصعود الوظيفي.

في حين شاع الانتساب إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي في أوساط مسيحية وبيئات بعض الأقليات، وفي سياق مناظر لم يكن الانشقاق الأشهر في الحزب الشيوعي، بين “المكتب السياسي” (رياض الترك) وجماعة الأمين العام (خالد بكداش)، بعيداً عن انتماء عربي لدى الأولين وتجمع كرد حول الأخير.

ومنذ أن برزت الانتماءات الأهلية وجد لها “الأسد الأب” حلاً من الطابق الثاني، وهو سهل أيضاً رغم بعض التعقيدات الشكلية، ويقتضي ببساطة أن تمثَّل الطوائف والقوميات والعشائر والمناطق في الحزب والحكم من خلال أفراد لا ينتمون إليها بشكل وثيق وإن حملوا هوياتها بالولادة، فجمع طاقماً يوحّدهم الولاء له في العاصمة وتفرّقهم المدن التي يقضون فيها إجازاتهم ويرجعون إلى البيوت التي بنوها فيها بعد التقاعد.

ومن دون المرور بالطوابق الوسيطة، التي ربما كان فيها المخرَج، يصرّ مثقفون على الإطلالة على البلاد من أعلى البرج، فيرون أن أي نظر إليها بوصفها جماعات من مكوّنات أهلية إنما هو تماه مع نظرة استشراقية استعمارية إلى المنطقة.

وفي زمن تعدد الهويات حتى داخل الشخص الواحد لا حل إلا بديمقراطية عميقة تقوم على رفض نهائي للحلول العسكرية، فضلاً عن الإبادية، وإتاحة مناخ آمن يستطيع الناس فيه أن ينفكّوا عن أروماتهم، إن شاءوا، ويلتحقوا بهويات فكرية وسياسية حرة وفردية..

وربما مع مخطط إسرائيل لتفتيت دولها إلى دويلات دينية وطائفية لئلا تشعر بالغربة، وخنجر في جسد الوحدة الوطنية التي لا يمكن الحفاظ عليها إلا بطمس هذه الانتماءات، والتحرج الطهراني عند الاضطرار إلى الإشارة إليها، والإصرار على أن “كلنا سوريون” سواء آمنا بالوطن من جبلة أو من دوما أو من أي بقعة من التراب الممتد على المساحة التي يشغلها، والتي رسم حدودها سايكس وبيكو بالمناسبة، وأكثر من أي وقت مضى تبدو هذه النظرة حالمة ورغبوية، فالواقع لا يتغير بتجنب النظر إليه.

هذه حلول فاشلة ثلاثة، بل هي حل واحد متنوع الوجوه التي يجمعها تجاهل الواقع، سواء بحسن نية بسيط أو مركّب أم بسوئها، وفي زمن تعدد الهويات حتى داخل الشخص الواحد لا حل إلا بديمقراطية عميقة تقوم على رفض نهائي للحلول العسكرية، فضلاً عن الإبادية، وإتاحة مناخ آمن يستطيع الناس فيه أن ينفكّوا عن أروماتهم، إن شاءوا، ويلتحقوا بهويات فكرية وسياسية حرة وفردية، تضمن السلطة فيه إدارة التعدد بنزاهة ومساواة أمام القانون وفي الإعلام الرسمي من دون إغفال التباين المحرّك لدى الجماعات.

من المؤسف أن كثيراً مما يُتداول اليوم ما يزال يكرر ألاعيب التجاهل ذاتها، هذا إذا لم يعمد بعضهم، في الزمن الانتقالي، إلى الإعلان بوضوح عن نزعاتهم الأهلية الغرائزية بشكل لا يستر كرهه الأسود ويديه الموغلتين في الدم.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى