صدّق أو لا تصدّق… انتهت الحرب

معن البياري

                     

ليس الوقتُ للحديث في السياسة، في اليوم التالي هناك، في الخُدع التي سيفتعلُها مجرم الحرب نتنياهو وأمثالُه في حكومته، في الذي أصابت فيه حركة حماس والذي أخطأت فيه. ليس الوقتُ للوْم أحد، العرب، السلطة الفلسطينية، المطبّعين، ولا لشُكر أحد. ليس الوقتُ للكلام عن خطط ترامب ونرجسيّاته، ولا عن سفالات بايدن، ولا عن الخذلان والإحباط واليأس. ليس الوقتُ لترقّب أيِّ شيءٍ أو تذكّر أيِّ شيء، ولا لهذا الطلب أو ذاك. ليس الوقتُ لانتظار قوةٍ دوليةٍ أو عربيةٍ أو فلسطينية، ولا لتخمين الذين سيحكُمون ويديرون ويخطّطون، من هم، وماذا سيرتدون. ليس الوقتُ للنقاش في مستقبلٍ سيأتي، ولا في ماضٍ انصرَف، ولا في راهنٍ يجري. ليس الوقتُ لآمالٍ أو أوهامٍ أو مخاوف، ولا للقلق أو التريّث أو التفاؤل أو التشاؤم. ليس الوقتُ للنسيان أو التناسي أو مراوغة الذاكرة، ليس للتأسّي أو الصمت أو الكلام. ليس الوقتُ للتأمّل أو التفكّر أو التناجي، ولا للحذر أو التطيّر أو التحسّب.

الوقتُ ليفرحوا هناك في غزّة ما أمكن لهم أن يفعلوا، أن يسعَدوا بجرعاتٍ تتيسّر لهم من الفرح. لهم أن يبتهجوا، أن يسرَّهم أي شيء، أن يرتاحوا من كل شيء، أن يأنَسوا إلى أمنٍ وأمانٍ يوعَدان بهما. أن يضحكوا إن استطاعوا. أن تدمَع عيونُهم من سعادةٍ يتوسّلونها ويروْنها سانحة، أن يسمعوا الأخبار ليصدّقوها، تلك التي تقول لهم إن الحرب عليهم انتهت، حتى لو سمّيت وقفاً لإطلاق النار، ولو جاء الكلام الكثير على صفقاتٍ وخرائط ومراحل وما شاؤوا من أسماء وأوصاف. الوقتُ لأهل غزّة من أجل أن ينبسطوا، لأن التمويت الذي أقام بين ظهرانيهم سنتيْن من الجحيم سيغادرُهم، لأن الليل والنهار سيكونان كما أي ليلٍ ونهارٍ في البلاد الأخرى، لأن قذائف لن يُسقطها المجرم الإسرائيلي على خيامهم ومستشفياتهم ومدارسهم وشوارعهم وبيوتهم. الوقتُ لهم لكي يتعرّفوا إلى البهجة والفرح والسرور، وكانت هذه مفرداتٍ نائيةً عنهم، أن يعرفوا أن في وسع أبدانهم أن تغتسل بأملٍ، برجاءٍ، بضوْء، وفي وُسع أرواحهم أن تغتبط بنجاةٍ، بقليلٍ من عاديّ الحياة وبساطتها.

نريد أن نصدّق، مضطرّين ربما، أن حرب الجنون الإسرائيلي انتهت. أنها توقّفت حربُ الإبادة التي لم يتعرّض لمثلها شعبٌ مختنقٌ في حصار، ومجوّعٌ، أن حرب التقتيل التي لم يتصوّرها عقلٌ انقضَت أيامُها التي ضجر أهل غزّة من عدّها. نعم، نحتاجُ، مع الناس هناك، أن نصدّق أن الليل البهيم انجلى. ليتحدّث أهل القرار، في واشنطن وغيرها، عن إعادة إعمارٍ وإزالة أنقاض، أمّا أهل الألم المديد، أهل الدم الراعف، أهل الجثامين، أهل الصبايا والفتية والأطفال والأمّهات والجدّات والأعمام والعمّات والخالات، والأبناء والبنات، والأحفاد والحفيدات، والجيران والأقربين والأبعدين، أهل هؤلاء الذين أخذهم المعتدي  موتى بلا شواهد على قبورِهم، هؤلاء الأهل لا شغل لهم، الآن بالضبط، بمشاغلَ كهذه، ولا بأي شؤونٍ مثلها، لأنهم في انتشاءٍ بما يسمعون عن إكمال المجرمين مهامّهم في الحرب، أو ربما طوْراً منها. هذا سببٌ باهرٌ لبهجةٍ طالما تمنّوا شيئاً منها، وطالما انتظروا أن يتذوّقوا بعضاً منها، لكن الوقت لم يكن يسمح، لم يمكّنهم منه القتلُ الكثيفُ بين ظهرانيهم، والذي زاوله الغُزاة وكأنهم يؤدّون روتيناً يألفونه.

أرطالُ اليأس الباهظ، وقد بنت جبالاً في أرواحنا، طوال سنتين، لا تريد لنا أن نصدّق أن الحرب، المثقلة باللؤم والتوحّش واللاآدمية، وصل مرتكبوها إلى السطر الأخير لدم الفلسطينيين فيها. ولكننا لسنا نملك سوى أن نصدّق، أن نشارك أهل غزّة بعض الدمع المالح وهم ينظُرون إلى أصابع أيديهم، إلى أقدامهم، إلى رؤوسهم، ويتحسّسون عيونَهم وآذانهم وخدودَهم، فيوقنون أنهم أحياء في لحظةٍ ينوون أن يفرَحوا فيها. كانوا في ظلامةٍ شديدة الروْع، في بؤسٍ ضاغط، في جوعٍ وعطشٍ إلى أي حياةٍ من أي نوع آخر، وقد تحمّلوا ما شوهد قليلٌ منه على الشاشات، وتفرّجنا عليه، وطفقنا نرطنُ بالغضب العارض، ثم لم نعُد نفعل.

لنصدّق أنها انتهت أسوأ حروب العدو الإسرائيلي على بعض الشعب الفلسطيني. ليفرَح أهل غزّة، ولا يصنعوا شيئاً، لا ينشغلوا بأي شأن، ثمّة أوقاتٌ مقبلةٌ لكل شيء. آن لهم أن يفرحوا، ويستطيعون، رغم الذي نعرف والذي لا نعرف مما كابدوا وغالبوا، حماهم الله.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى