هل يعود العفريت إلى مصباحه؟

عائشة بلحاج

من يعيد العفريت إلى مصباحه؟ بعد عامين على بدء الإبادة، ورغم التضامن العالمي مع غزّة، لن تتغيّر حقيقة أن صنّاع القرار وأصحاب المال والإعلام الغربي لن يتوقّفوا عن دعم إسرائيل، حتى لو أُفرغت غزّة كاملةً من أهلها.

وبينما يغلي الشارع في العالم كله، نشرت “بي بي سي” (الثلاثاء الماضي) تقريراً عن غزّة يبدأ بالحديث المستفيض عن كيف كان القطاع “مكاناً رائعاً”، إلى أن جاء هجوم 7 أكتوبر (2023). قدّم التقرير معلومات متناقضة عن “روعة” حياة الغزّيين حينها، مثل توفّر الكهرباء لست ساعات فقط، وصعوبة الخروج من غزّة، ونسب البطالة المرتفعة، وأشياء أخرى كثيرة. مع ذلك، كانت الأمور “رائعةً”، بالمقارنة مع أيّ بديل… مع الإبادة طبعاً. بديهي أن أيَّ وضع سيكون أفضل من وضع غزّة تحت النار، لكن كيف يمكن القول إن حياة الغزّيين سابقاً كانت مثاليةً؟ هكذا اعتُبرت حركة حماس المسؤول الوحيد (كما يلمّح التقرير) عن أرواح ما يقارب 70 ألف شهيد، بينما إسرائيل هي لعنة الغزّيين قبل وبعد “7 أكتوبر”. طرح التقرير سؤالاً مسموماً على لسان سيّدة: “لماذا نُحاسَب نحن (أهل غزّة) منذ سنوات، وحدنا؟”. طبعاً يمكن تخيّل التلميحات المفتوحة نحو أطراف مختلفة، ترى النسخة الغربية من الإبادة أنّها مسؤولة عن دماء الغزّيين. أمّا إسرائيل فهي طرف “متضرّر” اضطرّ للدفاع عن نفسه، ومعاذ الله أن تكون الجاني الوحيد في مجزرة مفتوحة لعامَين. الحقيقة الساطعة أنها فرصة لم تُصدّق إسرائيل أنها أُتيحت لحرب كان واضحاً، بعدها ببضعة أشهر، أنها لن تنتهي قريباً، لأنها أخرجت “عفريتاً قديماً” إلى الوجود، لتأخذ إسرائيل راحتها. هل كان نتنياهو ورفاقه، السابقون منهم واللاحقون، ليحلموا بفرصة كهذه، لمحو شوكة جارحة اسمها غزّة حتى يضيّعوها؟ وعلى عكس “حماس” التي سعت إلى اتفاق ينهي حرب الإبادة، إنقاذاً لما يمكن إنقاذه، لم تكترث إسرائيل بإنهائها. لأنها تستغلّ الفرصة لجعل الحياة في غزّة مستحيلةً. ولا يزال الغزّيون حتى الآن لا يصدّقون أنها ستغلق أبواب الجحيم التي فتحتها عليهم. الجحيم الذي كان أيضاً وسيلة اختبار لتأثير الحرب على المجتمع الدولي، ممّا يفتح لإسرائيل الأبواب لتصعيد أكبر إذا لم يردعها، على الرغم من الأصوات القليلة المُدِينة. فانتقالها إلى جبهة لبنان بهذه السلاسة كان مخطّطاً، وفعلت بمجرّد أن سنحت الفرصة. ثمّ صار العالم لفترة مستعدّاً لكل ما تريد فعله، وتُرك لها المجال لتفتح النار على إيران وتجتاح سورية، وتهاجم اليمن، وتقصف الدوحة في أقصى درجات الوقاحة والجرأة.

وكان التطبيع وسيلة إخراس للأصوات العربية، واستدراج لها إلى أوضاع تجد فيها نفسها (كما حدث) خارج المواقف المشرّفة التي تبنّتها دول لم تكن لها مشاكل سابقة مع إسرائيل، منها دول غربية وشرقية لم تشكّك يوماً في علاقتها بالكيان الصهيوني. لا أحد كان يتوقّع الصمت العربي، فالمنطقة العربية التي لم تُجمِعْ يوماً على شيء أجمعت على الخذلان، حتى صار بإمكانها أن تُنشئ جامعة الخذلان العربي لتلطم فيها على خيبتها وهوانها.

مع مرور سنتَين، يبدو بديهيا أن الحديث عن انتصار أمر فيه كلام كثير أيضاً. صحيحٌ أن “حماس” صارت في موقف صعب عسكرياً وشعبياً. مع ذلك، لن تُباد المقاومة كلّياً لأنها فكرةٌ لا تموت، والقضية الفلسطينية ستظلّ حيّة في أرض الواقع، وسيُنجِب الشهداءُ آخرين، رغم أن الحرب بالفهم الدولي “مربوحةً” للغرب السياسي الداعم للكيان الدّموي، هذا الغرب الذي قد يفيق يوماً ويندم على عمائه. لكنّه الآن سعيد بمحو سيطرة حماس على غزّة، حتى لو كان الثمن ما ستُظهر الأيام أنه مائة ألف شهيد، مع اكتشاف مصير المفقودين الذين لا دليل على استشهادهم، وستكشف الأنقاض بعد حين جثامينهم. لكنها تتجاهل أن الأطفال الذي شاهدوا الإبادة ونجوا من آلة القتل، سيكبرون والإبادة مستمرّة في أذهانهم، وسيشكّلون وقوداً مستمرّاً للمقاومة ضد إجرام الاحتلال. فما من ناج حقاً من الإبادة، حين يكون الإنسان فيها معلقاً بخيط رفيع بالموت، وشاهداً دائماً على الموت حوله.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى