يقدّم علي أبو نوّار، رئيس أركان القوات المسلّحة الأردنية (1956)، في كتابه “حين تلاشت العرب”، روايته لحرب 1948، ومرحلة الصراعات العربية في الخمسينيات وصولاً إلى 1964، وهي المسيرة الانتكاسية التي لم تنته في حرب الـ67، ولا في ما بعدها من حروب وهزائم وصلت إلى مرحلةٍ أصبح “تلاشي العرب” الذي تحدّث عنه أبو نوّار لا يُذكر مع اللحظة الراهنة الأقرب إلى نبوءة واسيني الأعرج في روايته “العربي الأخير”، أنّ المجتمعات العربية آيلة إلى الانقراض!
ثمّة تفكّك مستمرٌّ في حالة النظام الإقليمي العربي هي الكفيلة بتقديم تفسيرٍ منطقي لاتفاق التطبيع بين الإمارات وإسرائيل برعاية أميركية، بما يتجاوز اختزال السبب بتقديم خدمة للرئيس الأميركي دونالد ترامب في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، فهنالك سياقات عربية أكثر حضوراً في تفسير ما حدث.
الانهيار الاستراتيجي العربي هو السبب الرئيس، ونقطة التحوّل المهمة فيه تتمثّل في احتلال العراق في العام 2003، ليس على صعيد خروجه من معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي فقط، بل أيضاً في النفوذ الإيراني الإقليمي، ثم جاء الربيع العربي ومقاربة النظام الرسمي العربي التي تراه خطراً، فأضيفت تركيا وجماعة الإخوان المسلمين إلى إيران، وأصبحت سورية خارج ميزان القوى لحربها الداخلية، واهتمامات مصر وأولوياتها ونظرية الأمن القومي التي كانت تدخل سابقاً قطاع غزة جزءا منها تغيّرت هي الأخرى، لتنقلب الأولويات باتجاه الداخل المصري، ومصدر التهديد الجديد للأمن المائي والقومي المصري في موضوع سدّ النهضة.
في المحصلة، باتت الدول العربية الكبرى التي كانت تشكّل تاريخياً العمق الاستراتيجي للفلسطينيين، العراق وسورية ومصر، خارج حسابات الصراع مع إسرائيل، أولاً. وثانياً، وهو الأخطر، بدأت نظرية “مركزية القضية الفلسطينية” تتفكّك بوضوح، وتحلّ محلها نظرية تتبنّاها دول عربية (صيغت وأنتجت في تل أبيب وحظيت بمباركة الإدارة الأميركية)، ترى في إيران الخطر الأكبر، بصورة معلنة، ويمكن أن نضيف (بصورة غير معلنة) تركيا وقطر والإسلاميين.
لم يقف “التدهور” عند هذا المستوى، إذ بدأت تظهر خلال الأعوام الماضية إرهاصات أو مقدّمات للاتفاق الإماراتي – الإسرائيلي، عبر لغة جديدة غير مألوفة اتهامية للفلسطينيين، من شخصياتٍ خليجية، تتحدّث، في المقابل، عن الإسرائيليين بدفء، بما يكسر كل التابوهات الشعبية التقليدية، بالتزاوج مع المصارحة بعدم مركزية القضية الفلسطينية في الأمن القومي العربي، مع محاولات تطبيعٍ مدعومةٍ رسمياً كبالون اختبار وتمهيد للخطوات المقبلة.
إذاً ما حدث فضلاً عن أنّه مقترنٌ بسياق تاريخي – سياسي لمسلسل الانهيار، لم يأت فجأة أو مصادفةً، بل مع سبق الإصرار والترصّد، وبتخطيطٍ مسبق، ونظرية جديدة تحمل، في طيّاتها، تغييراً جوهرياً في المقاربة الرسمية العربية، وفي موازين القوى داخل النظام الرسمي العربي نفسه، ما يعني أنّ اتفاق التطبيع بمثابة نقطة تحوّل، وليس فقط “خدمة وديّة” للرئيس ترامب على أبواب الانتخابات الرئاسية المقبلة. دلالة ذلك أنّ الاتفاق الحالي ستليه، وفقاً لتأكيدات الإدارة الأميركية، اختراقاتٌ أخرى جديدة، وستذهب دول عربية في المسار نفسه، بضغوط أميركية. ولن يقف الأمر عند حدود التطبيع الاقتصادي أو الرحلات الجوية والسياحية، بل سيأخذ بعداً أمنياً استراتيجياً، لتكريس تحالف دولي – إقليمي بين إسرائيل ودول عربية عديدة، ضد كلّ من المحورين الإيراني والتركي، ما يعني نقطة تحول تاريخية خطيرة في دور إسرائيل الإقليمي وعلاقتها بالنظم العربية، واقتحاماً ثقافياً ونفسياً، قبل أن يكون سياسياً أو اقتصادياً.
المفارقة، وعلى خلاف ما يعتقد كثيرون أنّ الاتفاق خدمة لترامب، قد يكون الهدف استباق أي احتمال لفشل ترامب في الانتخابات، لتكريس واقع جديد في المنطقة العربية، تحظى فيه هذه الدول بدعم اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، وبعلاقاتٍ إقليمية مع إسرائيل في سياق التنافس مع قطر وتركيا وإيران إقليمياً، ما يحدّ من إمكانية انقلاب أي إدارةٍ أميركيةٍ مقبلة على هذه الأنظمة، بفضل النفوذ الإسرائيلي والدور الإقليمي الجديد!
لمزيد من التفسير، وبالعودة خطوة إلى الوراء، أي نحو إدارة الرئيس باراك أوباما الذي شكّل هاجساً لمعسكر الأصدقاء العرب، بعدما قدّم منظوراً جديداً مختلفاً للسياسة الأميركية في المنطقة العربية، في عقيدته الاستراتيجية The Obama doctrine، تقوم على مبدأ “القيادة من الخلف”، والانسحاب من مشكلات الشرق الأوسط، والصفقة مع إيران، والقناعة بفساد الدول العربية وتفكّك النظام العربي، وغيرها من مفاهيم تشكّك بجدوى العلاقة مع الأصدقاء العرب التقليديين، ما أحدث حالةً من القلق الشديد، قبل أن يأتي الرئيس ترامب، ويعود إلى “المدرسة الواقعية” التقليدية التي تقوم على دعم النظم الرسمية العربية مقابل المصالح الأميركية، ولكن مع متغير جديد، استدخال إسرائيل في النظام العربي، وتفكيكه من الداخل، وإعادة تعريف الأصدقاء والأعداء بصورةٍ واضحةٍ وجليّة!
في الخلاصة، نحن أمام مرحلة جديدة يمكن أن يُطلق عليها “ما بعد الانهيار” العربي، أنهت بالكلية المفاهيم القومية والثقافة السياسية التي حكمت منظور الدول العربية والشعوب خلال العقود الماضية، تجاه إسرائيل ومركزية القضية الفلسطينية، وبدأنا في عملية إعادة تشكيل جديدة للنظام الإقليمي.
المصدر: العربي الجديد