
وُلد محمد أشرف أبو الوفا مروان في القاهرة عام 1944 في أسرة ذات صلة بالمؤسسة العسكرية، فوالده كان ضابطاً في الحرس الجمهوري. منذ بدايات شبابه برزت أمامه أبواب النخبة المصرية حين التحق بجامعة القاهرة ودرس الهندسة الكيميائية، لكنه لم يكتفِ بالمسار الأكاديمي، إذ كان طموحه أكبر من ذلك. تزوّج عام 1966 من منى عبد الناصر ابنة الرئيس جمال عبد الناصر، وبذلك دخل مباشرة إلى قلب السلطة، وأصبح جزءًا من أسرة الزعيم الذي شكّل وجدان أمة بكاملها. هذا الزواج لم يكن عادياً، فقد وضعه منذ البداية في بؤرة الاهتمام، وصار محطّ أنظار أجهزة الدولة وخصومها في الداخل والخارج.
مع نهاية الستينيات بدأ مروان العمل في مكتب الرئاسة تحت إشراف سامي شرف سكرتير الرئيس للمعلومات، وهو أحد أبرز رجالات عبد الناصر وأكثرهم قرباً منه. بهذا المنصب اكتسب مروان خبرة مباشرة في إدارة الملفات الأمنية والسياسية، كما أتيح له الاطلاع على بعض القضايا الحساسة التي تديرها مؤسسة الرئاسة، سواء في الداخل المصري أو في علاقة الدولة بملفات الصراع العربي الإسرائيلي. ومع وفاة عبد الناصر وصعود أنور السادات عام 1970، حافظ مروان على موقعه داخل مؤسسة الحكم، بل توسعت صلاحياته مع الوقت، خاصة بعد أن وثق فيه السادات وعهد إليه بمهام دقيقة.
منذ تلك الفترة بدأت الاتهامات بالظهور، إذ روجت إسرائيل أنه تواصل مع جهاز الموساد بشكل مباشر، وأنه قدّم نفسه لهم طوعاً كـ”walk-in agent”، وأصبح يُعرف لديهم باسم “الملاك”. في الرواية الإسرائيلية الكلاسيكية، وُصف مروان بأنه أعظم جاسوس في تاريخهم، وأن المعلومات التي زودهم بها كانت بالغة القيمة: خطط حرب، صفقات سلاح، وحتى تفاصيل عن اجتماعات القيادة المصرية. غير أن هذه الرواية لم تمر دون اعتراض، فقد كان كثير من المحللين العرب يرون أن القصة قد تكون أعقد من ذلك بكثير، وأن مروان ربما لم يكن عميلاً لإسرائيل بل جزءًا من خطة مصرية أكبر لخداع العدو.
في أجواء ما قبل حرب أكتوبر 1973 تزايد الجدل حول دور مروان. الروايات الإسرائيلية تقول إنه سلّم لهم إنذاراً في السادس من أكتوبر يفيد بأن الحرب ستندلع، لكن التوقيت جاء متأخراً جداً بحيث لم تتمكن إسرائيل من الاستفادة منه. بل إن بعض القادة العسكريين الإسرائيليين أقرّوا لاحقاً أن الإنذار لم يكن ذا قيمة عملياتية حقيقية، وأن الجيش فوجئ بالفعل بالهجوم المصري السوري المشترك. هنا تحديداً يدخل تحقيق صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، الذي أعاد في السنوات الأخيرة النظر في صورة مروان، حيث وصفت الصحيفة الرجل بأنه لم يكن “أعظم جاسوس لإسرائيل” كما قيل، بل “ذراعاً محورية في خطة الخداع المصرية” التي مهّدت لنصر أكتوبر. هذا التحقيق أشار إلى أن مروان، بدلاً من أن يخدم العدو، كان يسرب معلومات مضللة ومتأخرة، مما جعل القيادة الإسرائيلية في حالة ارتباك دائم.
لقد منحته مناصبه اللاحقة مزيداً من الغموض حول حقيقته. فقد عُيّن بعد الحرب سكرتيراً للسادات للشؤون الخارجية، ثم عضواً في لجان تطوير السلاح والطاقة النووية، وترأس الهيئة العربية للتصنيع العسكري، كما أصبح سفيراً لمصر في لندن عام 1987. هذه المواقع الحساسة جعلته أكثر التصاقاً بالملفات الاستراتيجية المصرية، لكنها جعلته أيضاً عرضة للشبهات من كل اتجاه. خصوم عبد الناصر والإسلاميون على وجه الخصوص استغلوا صلة المصاهرة بينه وبين ناصر للتشهير بالزعيم الراحل، متجاهلين أن عمل مروان الحقيقي كان في حقبة السادات التي منحته كل تلك الصلاحيات، وأن الإخوان أنفسهم حين وصلوا للسلطة بقيادة محمد مرسي عام 2012 كرّموا السادات بقلادة النيل.
وفاة مروان عام 2007 زادت من الغموض. فقد سقط من شرفة منزله في لندن في حادثة لم يُكشف عن ملابساتها حتى اليوم. الشرطة البريطانية فتحت تحقيقاً في وفاته لكن الملف بقي غير محسوم، وتعددت النظريات: هل قُتل على يد الموساد لأنه استُنزف ولم يعد صالحاً؟ أم أن أجهزة أخرى تخلصت منه خوفاً من كشف أسرار حساسة؟ أم أنه انتحر بفعل ضغوط شخصية وسياسية؟ لا إجابة واضحة، لكن المؤكد أن الحادثة غذّت روايات الشك والريبة، وباتت جزءًا من أسطورته.
التقييم التاريخي لدور أشرف مروان يبقى معقداً. فالرواية الإسرائيلية التي صنعته “جاسوساً أعظم” خدمت أهدافاً دعائية في الداخل الإسرائيلي وأظهرت تفوق الموساد، لكنها اليوم تتهاوى داخل إسرائيل نفسها، كما بيّن تحقيق يديعوت أحرونوت. أما الرواية المصرية الرسمية فلم تُفصح يوماً بشكل قاطع عن تفاصيل أدواره، ما ترك الباب مفتوحاً أمام التأويلات. غير أن المؤشرات من مسار حرب أكتوبر ونتائجها تميل إلى أنه كان أقرب إلى أداة خداع مصرية ناجحة منه إلى خائن لوطنه. لقد ساهم، بوعي أو بتكليف، في تضليل إسرائيل عشية الحرب، وجعلها عاجزة عن استيعاب التوقيت الحقيقي للضربة.
لقد دفع مروان ثمن موقعه المزدوج بين عالم السياسة والاستخبارات. فهو زوج ابنة عبد الناصر، رجل ثقة السادات، شريك في مشاريع استراتيجية، وفي الوقت نفسه شخصية غامضة عالقة بين الروايات. لكن الحقيقة التي تأبى إلا أن تخرج هي أن إسرائيل نفسها بدأت تعترف بأن “الملاك” لم يكن كما ادعت، بل كان “ملاك الشك”، كما عنونت يديعوت أحرونوت، وأنه ربما كان أداة مصرية بارعة في قلب الحرب النفسية. بهذا، يغلق التاريخ صفحة افتراء طالما استُخدمت للتشهير بجمال عبد الناصر عبر صهره، ويُثبت أن الرجل لم يكن خائناً، بل كان وفياً لوطنه ومخلصاً لمصر.