هل نجح الشرع في نيويورك؟

عمار ديوب

سبقت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع نيويورك، لإلقاء كلمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، تكهّناتٌ كثيرة، أهمها أن لقاءً سيجمعه مع الرئيس الأميركي ترامب، وهو ما حصل، وأن اللقاء سيؤدّي إلى رفع العقوبات عن سورية، بالتوازي مع توقيع اتفاق أمني مع الدولة الصهيونية. الأمران لم يتحقّقا، وبدأ مبعوث ترامب إلى سورية، توم برّاك يتحدّث، عن خفض التصعيد. وأمّا قانون قيصر فلم يُرفع حالياً، وسيُجمّد فقط. الحصيلة هنا أن سورية ستظلّ معرّضةً لضغوط صهيونية، ولن تتحوّل واجهةً للاستثمارات العالمية، فعدم رفع العقوبات لن يشجّع على استثمارات واسعة، وهو يشير إلى أن هناك مخاطر أمنية كبيرة. فما العمل؟
هناك شروط أميركية كثيرة (جديدة وقديمة) هي من أسباب عدم رفع العقوبات، منها ضرورة الاشتراك بالتحالف الدولي ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وحماية حقوق الأقليات، الدينية والعرقية، ووقف أيّ هجمات على دول الجوار، أي الدولة الصهيونية، ومسألة وجود المقاتلين الأجانب في وزارة الدفاع. يكرّر مبعوث ترامب في هذا الاتجاه ضرورة تشكيل حكومة شاملة. ورغم رفضه فكرة الفيدرالية أو اللامركزية السياسية، وتحبيذه اللامركزية الإدارية، فهو يحثّ سلطة دمشق على التشاركية السياسية، والتفاوض مع كلٍّ من “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والسويداء، ولعب أخيراً دوراً مركزياً في إطلاق “خريطة طريق لحلّ أزمة السويداء”، ويساهم بشكل متكرّر في التقريب بين “قسد” ودمشق.

يعطي تعليق العقوبات الأميركية بدلاً من رفعها انطباعاً بأن واشنطن ليست راضيةً عن بعض سياسات السلطة في دمشق

لا تبدو الدولة الصهيونية في عجلة لتوقيع الاتفاق الأمني، والأدقّ أنها تُريد اتفاقاً على هواها. فهي تحتل أراضي جديدة بعد 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، تمتدّ نحو 600 كيلومتر مربّع، وتفرض سيطرةً أمنيةً وعسكريةً على كامل الجنوب السوري. وبالتالي، هي ليست بحاجة إلى الاتفاق الأمني، مع أن المفاوضات تؤكّد الاقتراب منه، وتسريبات وكالة رويترز أخيراً أشارت إلى أن الاتفاق كادّ يُوقَّع، لولا أن دولة العدو تقدّمت بمقترح جديد ينصّ على فتح معبر “إنساني” إلى السويداء، ورفضته دمشق.
اجتهد الشرع في نيويورك لتتحوّل سورية دولةً طبيعية، فألقى كلمة في الأمم المتحدة، وشارك في قمة كونكورديا لرجال الأعمال، وحاور مدير وكالة المخابرات الأميركية الأسبق، ديفيد بترايوس، والتقى ممثّلين لغرفة التجارة الأميركية. وهناك لقاءات كثيرة مع دبلوماسيين وقادة عرب. أراد أن يعيد سورية إلى المؤسّسات الدولية التي انقطع عنها حافظ الأسد ووريثه منذ 1970. وفي مشاركاته كلها، حاول الشرع تقديم سلطته باعتبارها تمثّل الشعب السوري، وتحدّث عن “انتخابات” مجلس الشعب في الأمم المتحدة، وفي حواره مع بترايوس أكّد تمسّكه باتفاق فكّ الاشتباك 1974، وأن الجولان محتل من دولة الاحتلال، وأن التوغّل البرّي عدوان، وانتقد (ضمناً) اتفاقات السلام مع بعض الدول العربية، وركّز كثيراً على أن الحاجة الفعلية في سورية هي التنمية الاقتصادية، والسلام والازدهار، ولم يتردّد بالقول: “ارفعوا العقوبات، وانظروا إلى النتائج”.
الشرع بأمسّ الحاجة إلى الشرعية من الإدارة الأميركية. وفقاً للتحليل أعلاه، هناك اشتراطات لتحقيق رفع العقوبات نهائيّاً. العقوبات مقيّدة حالياً، وهذا يعطي انطباعاً عالمياً بأن الإدارة الأميركية ليست راضيةً عن بعض سياسات السلطة منذ 8 ديسمبر. وبالتالي، من الخطأ أن تعوّل سلطة دمشق على طرد إيران وحزب الله، واعتبار ذلك رخصتها إلى انفتاح عالمي عليها، سيّما أن دولة العدو تعتبر أنها أسهمت بذلك منذ “7 أكتوبر” (2023).
الشروط المطروحة أمام سلطة الشرع هي الأساس في جعل سورية دولةً طبيعيةً، فماذا عليه أن يفعل؟ فلم تكن زيارته نيويورك كافيةً للمزيد من شرعنة سلطته أميركياً وعالمياً. لدينا مشكلتنا كبيرتان، هما قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المحمية أميركياً (وجيش سوريا الحرّة، المدعوم أميركياً أيضاً، لكنّه لا يشكّل مشكلةً حقيقيةً في هذا الآونة)، والسويداء، التي لا يتوقّف نتنياهو عن تأكيد حماية الدروز السوريين فيها. وهناك مسألة مهمّة هي التفاوض بخصوص التمدّد الصهيوني في كامل الجنوب السوري، وواضح أن هناك دعماً أميركياً له. ولن نُسهب هنا في عمق الأزمتَين الاقتصادية والاجتماعية، ولا التوتّر الشديد بين الطوائف، وتذمّر سكّان المدن (السُّنة وسواهم) من ممارسات الأمن العام، ومن تهميشٍ كبيرٍ لهم في أوساط السلطة أو في سياساتها العامّة في الاقتصاد وشؤون الدين والتعليم والثقافة، ولا في كيفية إدارة شؤون المواطنين عبر إدارات المدن.
ستظلّ يدا أحمد الشرع مقيدتين بالاشتراطات الأميركية، وربّما الصهيونية. وهذا سيحدّ كثيراً من الانفتاح العربي والعالمي على سلطته. المدخل نحو الحلّ، كما ترى أغلبية الأصوات النقدية السورية والعربية المنشغلة بالشأن السوري، يكون بالعودة إلى التشاركية، ويؤكّد برّاك ضرورة تشكيل حكومة شاملة، والأمم المتحدة تؤكّد أهمية إجراء عملية سياسية شاملة، تشترك فيها القوى الفاعلة كافّة في سورية. هذا مهم. وبالتالي، ولإسكات أصوات الاشتراطات الدولية، والضغط الصهيوني، يجب العودة إلى الشعب ونخبه، وعدم الاكتفاء بالشخصيات من هيئة تحرير الشام، مستشارين ووزراء، ومديرين لمختلف مؤسّسات الدولة. لم يؤدّ ذلك إلى قدرة السلطة على تذليل أيّ عقبة داخلية، بل راكمت المشكلات بمجزرتَين كبيرتين في السويداء والساحل، وفي سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وحسناً قال الشرع في نيويورك إنه سيحاسب كل من “تلطّخت يداه بالدم”، علماً أنّه لم يحاسب فرداً واحداً ممّن أولغ في الدم بعد مجزرة الساحل، وكان قد شكّل لجنةً للتحقيق، أنهت أعمالها، ويفترض أن المجرمين كافّة صاروا معتقلين، أقلّها بعد إدانتهم من لجنة التحقيق الحكومية.

ستظلّ يدا أحمد الشرع مقيدتين بالاشتراطات الأميركية، وربّما الصهيونية. وهذا سيحدّ كثيراً من الانفتاح العربي والعالمي على سلطته

يستدعي فرض سورية دولةً طبيعيةً عالمياً تغييراً كاملاً للسياسات المتّبعة، وإشراكاً حقيقياً للشعب في إدارة الدولة والسلطة. هناك الآن ضرورة لحكومة ممثّلة (شاملة) للشعب، وهناك ضرورة لعقد مؤتمر وطني عام، وهناك ضرورة لتغيير كلّي في إدارة الانتخابات الحالية لمجلس الشعب، فهي محض تعيين كامل لشخصيات مرضيّ عنها من السلطة، فثلث المجلس سيعيّنه أحمد الشرع، والثلثَان المتبقِّيَان ستُعيّنهما اللجنة العليا للانتخابات واللجان التابعة لها في المحافظات، كما ينصّ الإعلان الدستوري. وأصبح واضحاً بعد زيارة الشرع نيويورك، وعدم رفع العقوبات، أن الكرة أصبحت في ملعبه، وأن رفعها مسألة معقّدة للغاية، وتتطلّب تغييرات سورّية كبيرة، وربّما يجب مصارحة الشعب بوضوح في هذه القضية، وأن يكفّ إعلام السلطة عن تكرار أن العقوبات رُفعتْ، وتحقيق المطالب السياسية الداخلية في التشاركية والتعدّدية السياسية والشفافية والمباشرة بتطبيق العدالة الانتقالية، وإيقاف سياسة التعيين في إدارات الدولة، والتوقّف عن الاستمرار في مشروعٍ سياسي يضع كامل السلطات بين يديه منذ 8 ديسمبر، ويراكم الأزمات يومياً.

 

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى