ساد الفكر الأوروبي في تأسيس الدول، بعد خروج أوروبا من ظلامية القرون الوسطى. وكان المفكرون والفلاسفة يبحثون في عصر الأنوار عن دولة الحريات والقانون والمساواة، لكن في واقع الأمر كانت قوى الاستغلال الرأسمالي تبحث عن الدولة الاستعمارية التي تشرع استعمار الشعوب ونهب ثرواتها، إضافة إلى الاستغلال الداخلي، والتحكم في الأسواق المحلية، فضلًا عن الأسواق العالمية.
وعندما تنبه الاشتراكيون الأوربيون إلى توحش تلك الدول، أنتجوا الفكر الاشتراكي، والبيان الشيوعي، ينادون بإلغاء الدولة ونسفها من جذورها. وهكذا، فإن الدولة كانت هي دولة المسيطرين بالنسبة للماركسية، كما أنها أداة القهر التي يجب إزالتها.
لكن، مع التجارب الماركسية في العديد من الدول، في ما عُرف بعد ذلك بدول المعسكر الاشتراكي، تم ترسيخ الدولة، وأضيفت إلى مسؤولياتها المعروفة مسؤوليات أخرى تتعلق بالتخطيط الشامل، والأمن الشامل، والسيطرة الكاملة على وسائل الإنتاج، وأدوات الإنتاج، والسيطرة على مفاصل المجتمع، وتعميم القمع، وكم الأفواه. فإذا كانت دولة الرأسماليين تستغل جهد الإنسان، وتحتكر ثرواته وحاجاته؛ فإن دولة الشيوعيين سحقت إنسانية الإنسان، وبالتالي كان لا بد من تنظيم هذه الدولة لتشمل السيطرة على مناحي الحياة كافة. يقول رادومير لوكيل: “حتى ولو أن ماركس وأنجلز في مؤلفاتهما طرحا الأسس العلمية النظرية للدولة، والحق، فإن هذه البواكير الأولية لم تستثمر بما فيه الكفاية، ولم تُصغ منهجيًا بإتقان، كذلك الأمر فإن مؤلف لينين (الدولة والثورة) لم يستعمل بما فيه الكفاية لصياغة النظرية الماركسية في القانون والدولة”(1). ويضيف: “قبل الأدب الحقوقي السوفييتي، لا يوجد أي مؤلف ماركسي في نطاق نظرية الدولة والقانون، ولكن العلم الحقوقي السوفييتي في القسم الأكبر منه لم يناقش حتى فكرة هذه النظرية” (2).
يعترف لوكيل بأن دراسة الدولة والقانون تتم اعتمادًا على مناهج عديدة، وليس استنادًا إلى منهج واحد، يقول: “يوجد فارق بين الدولة من جهة، والحق من جهة أخرى، وفي الواقع، في حين أن الدولة هي ظاهرة اجتماعية حصرًا (تنظيم اجتماعي)، لا يمكن أن تدرس بواسطة مناهج خاصة بعلوم الأخلاق، فإن الحق هو ظاهرة أخلاقية، وإبداع أخلاقي يتألف من مجموعة مدلولات منظمة، ومن هنا يُمكن أن تطبّق عليها المناهج الخاصة بالعلوم الأخلاقية (أي المنهج المعياري)، ولهذا فإن المنهج المعياري اليقيني هو منهج خاص لدراسة الحق، لأنه بفضله يكشف ما هو خاص به –جوهره– وبالنتيجة، فإن العلم الوحيد الصحيح للحق هو اليقينية الحقوقية.. في حين أن كل العلوم الأخرى المناسبة للحق تكتفي بأن تكون علوم معالجة للحق. لكن لا يمكن الحصول على معرفة كاملة للحق، إلا إذا اشتركت كافة هذه العلوم التي تدرس الحق…”(3).
ويضيف لوكيل: “العلم الصحيح للدولة هو العلم السببي، وليس لهذا منهج مميز، ولذلك تدرس الدولة في كليتها بواسطة مناهج سببية مختلفة كالمناهج الاجتماعية، والنفسية……الخ…”(4).
(2)
وإذا كانت الدولة تُنظمّ الإكراه الطبيعي فقط؛ فإن القانون هو نظام المعايير الذي تقدم فيه الدولة قرارها القسري. “وإذا كان البعض يرى أن الدولة والقانون هما حصيلة بعض الظروف الاجتماعية المحدّدة التي تتغير بشكل دائم عبر التاريخ، ولهذا فإن الدولة تتغير، ويتغير الحق؛ فان البعض الآخر يرى أن الدولة والقانون هما حصيلة الحرية الخلاقة للإنسان، وإبداعات روحية تفرض نفسها على المجتمع الذي يطلبها ولا يجافيها، وان الدولة والقانون -بصفتهما إبداعين من هذا النوع- مستقلان عن المجتمع البشري وتطوره، وهما نموذجان مثاليان يصبو إليهما المجتمع أثناء تطوره، ويقترب منهما أكثر فأكثر في تقدمه”(5).
وهكذا، فإن التجربة فُرضت على ما كان يُظن أن لا حاجة للبحث فيه، فالدولة (أداة القهر الطبقي) لم يتم الاستغناء عنها، بل إن كلسن قال في كتابه (الاشتراكية والدولة، النظرية الشيوعية للحق): “إن الدولة ضرورية حتى في المجتمع اللا طبقي، فحتى النزاعات الناشئة في هذا المجتمع، مع كونها ليست اقتصادية، تقتضي تدخل الدولة بصفتها تستحوذ على احتكار الإكراه المادي”(6).
بينما يقول رادومير لوكيل: “إن الدولة والقانون يوجدان في مجتمع طبقي، وأنواع الدول والحقوق المؤسسة على الطبقات تتغير بذات الطريقة التي للمجتمع الطبقي: دولة، وقانون عبوديان، ثم إقطاعيان، ثم برجوازيان. ويناسب المجتمع الانتقالي الاشتراكي أيضًا دولة، وقانون انتقاليان، في طريق الزوال”(7). ويُضيف: “إن عملية تلاشي الدولة، والقانون تحصل في الاشتراكية؛ لأن الطبقات ومجابهاتها، التي هي التبرير الاجتماعي لوجود الدولة والقانون، هي التي تزول عندئذ تباعًا”(8). لكن ما يقوله لوكيل لم يحدث، ولا يبدو في الأفق مؤشر على إمكانية حدوثه.
يقول بوردو: “يمكننا التساؤل عما إذا كان بروز مجتمع تقني في البلدان المتطورة جدًا سيكون من نتائجه منح الدولة السند الاجتماعي، لتصبح أداة الجماعة التي يوجدها إيمان مشترك في التقدم والنمو. لقد أُعيد الاعتبار للدولة في الاتحاد السوفيتي. وإذا لم يعد واردًا زوالها، كما توقعّ إنجلز، فلأنها أصبحت وفقًا لتعبير المنظرّين السوفييت: (دولة الشعب بأسره)”(9). ويضيف: “لكي يعطي الفكر الليبرالي لسلطة الدولة أساسًا متماسكًا، عمد إلى تشويه الحقيقة الاجتماعية، بشكل يؤدي إلى فصل الجسم السياسي عنه، كذلك فعلت الماركسية حين عمدت بعملية جراحية إلى إعطاء السلطة أساسًا موحدًا”(10).
(3)
في مقالته (حول أزمة الماركسية)، أراد لويس ألتوسير عام 1977 تبيان (الثغرات النظرية) لدى كارل ماركس، إذ قال ألتوسير: “إن افتقار الماركسية افتقارًا فعليًا إلى نظرية حول الدولة هو واحدة من هذه الثغرات. هذه زاوية ميتة في الماركسية تشهد دون شك على الحدود النظرية التي كان ماركس أسيرها، وكأنه كان (مصبوغًا) بالتصور البرجوازي حول الدولة والسياسة، فأخذ يكرره، ولكن بشكل سلبي”(11). ويضيف ألتوسير: “من الجلي أن لينين لم يكن حريصًا على الدوام على هذا المنهج (منهج ماركس) بل ساوى في طريقته بين (وظائف الدولة) المُشتّقة من تعميمات تجريبية، والقانونيات السياسية، وبين النظرية”(12).
يعلّق أوس مولر بلاتنبرج على ما قاله ألتوسير بالقول: “إن عدم وجود (نظرية ماركسية فعلية للدولة)، كما يقول ألتوسير، ليس نتيجة للحدود النظرية الضيّقة التي يزعم ألتوسير أن ماركس كان أسيرها، بل هو نتاج لاكتفاء إحدى النظريات بمقولات تستحق فعلًا الصفة اللصيقة بها كمقولات تنظيرية”(13).
أما هارولد لاسكي، فقال في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين: “لا مراء، رغم انقضاء ثلاثين سنة، في أن الاتحاد السوفييتي ما زال ينوء تحت دكتاتورية أكيدة، ومن الطبيعي أن هذه الدكتاتورية تسبّب الحزن والخيبة لأولئك الذين يهتمّون بالحرية في مختلف أنحاء العالم. أما الفن، والتمثيل، والموسيقى، والسينما، فإن الدكتاتورية تعمل على أن تصب خلالها كلها سيلًا من الاتجاهات غالبًا ما يكون لها نتائج مضحكة، وفي بعض الأحيان نتائج مأسوية”(14).
ويضيف لاسكي: “الاعتداء على الحرية، عندما يكون سياسيًا أو اقتصاديًا، يتشابه دائمًا في طبيعته، وإن اختلف في دوافعه، فالعقيدة السياسية لها من السلطات على اتباعها ما لا يقلّ عن الدين، كذلك يدافع كل نظام اقتصادي عن نفسه بالطريقة نفسها دائمًا، حتى أنصار الماركسية في شكلها الأقصى لا يشكّون أبدًا في حقهم، في فرض مظهرهم على من يقاومهم، حتى بثمن من الدماء، وحين تكون الدولة (دستورية) مثل أميركا؛ فإن قمع الحرية يُسمىّ (منع الإفراط)، بينما تبرّره (دكتاتورية) مثل موسكو، بأنه مقاومة دخول المبادئ البرجوازية المضللة..”(15).
(4)
وينقل عصمت سيف الدولة، في كتابه (نظرية الثورة العربية)، عن ماركس قوله: “بين المجتمع الرأسمالي، والمجتمع الشيوعي، تقوم مرحلة ثورية للتحوّل من الواحد إلى الآخر، تصاحب هذا أيضًا مرحلة تحوّل سياسي لا يمكن أن تكون الدولة خلالها إلا الدكتاتورية الثورية للبروليتاريا”(16).
وعبّر إنجلز عن الموقف ذاته عندما قال: “لما كانت الدولة ليست إلا مؤسسة انتقالية تُستخدم في الصراع، والثورة من أجل إسقاط أعدائها بالقوة، فإن من السخف الحديث عن دولة شعبية حرة، وطالما تستعمل البروليتاريا الدولة، فإنها لن تستعملها من أجل الحرية، بل من أجل إسقاط أعدائها. وفي الوقت الذي يصبح من الممكن فيه الحديث عن الحرية فإن الدولة تنتهي كدولة”(17).
وبعد الثورة البلشفية بعامين، في عام 1919، قال لينين: “لقد استولينا على تلك الأداة المسماة (دولة) من الرأسماليين. استولينا عليها لأنفسنا، وبهذه الأداة سنُحطمّ كل استغلال”(18). أما خَلَفهُ ستالين فقال: “إن دكتاتورية البروليتاريا ذات سلطة قانونية غير محدودة ضد البرجوازية”(19).
يقول عصمت سيف الدولة: “في المجتمع الاشتراكي، حيث ألغيت الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج، وانتهى الصراع الطبقي. كيف تُقاس الشرعية هنا؟ أي ما هي الغاية الاجتماعية التي يجب أن يُحققهّا القانون…؟”، ويُجيب: “اتساقًا مع أصول الفكر الماركسي؛ يجب أن يُلغى القانون، وتتلاشى الدولة، ولكن التجربة السوفيتية أكدت بقاء الدولة والقانون”(20).
هكذا، بعد أن كان كارل ماركس قد قال في البيان الشيوعي: “إن قانونكم ليس إلا إرادة طبقتكم مصوغة في قانون عام”(21). جاء أحد فقهاء القانون السوفييتي بعد الثورة (روما شكين) ليقول: “إن القانون الاشتراكي، والشرعية الاشتراكية، يدعمان ويحميان نظام الدولة الاجتماعي، وأسسه الاقتصادية وحقوق وحريات المواطنين السوفييت، ويؤمّن تطوير العلاقات الاشتراكية في المجتمع”(22).
(5)
ما يعنينا الآن أن التجربة فرضت نفسها، وأن التجارب تحولت إلى مدارس، وإذا كان فقهاء القانون (الماركسي) قد تهيبّوا المساس بالمنهج (الجدلية المادية)، فإنهم كانوا أكثر جرأة في التعامل مع الوقائع، ومتابعة الاستنتاجات. والاعتراف للقوميات بحق تقرير المصير على المستوى الداخلي، وتقدير النضال الوطني، والقومي للتحرر من الاستعمار على الصعيد الخارجي، وبالتالي شرعية تأسيس الدول على أساس قومي مُتحرّرة من السيطرة، والتبعية للاستعمار شكلًا ومضمونًا، وصولًا إلى ما يسمى (إعادة البناء) “بروتوسترويكا غورباتشوف”، حيث يتضح شيئًا فشيئًا شكل ومضمون البناء الجديد، إذ كان نظام الهيمنة الدولية يتمثل بمعسكرين من الدول: معسكر اشتراكي ومعسكر رأسمالي، شكلا معًا حجري الرحى لطحن الشعوب، وخاصة في ما سمي العالم الثالث… الآن، وبعد “بيروسترويكا” غورباتشوف وبوتين، انتقل نظام الهيمنة الدولية ليقوم على معسكرين أيضًا: نظام مافيوي غربي، ومعسكر مافيوي شرقي، يؤديان الدور السابق ذاته، كحجري رحى، يطحنان أحلام الشعوب في الحرية وبناء دولة العدالة والمساواة والقانون، ويتباريان في ارتكاب الجرائم بحق الإنسانية.
ما يحز في النفس اليوم أن أعداء الحرية والعدالة والمساواة والقواعد الدستورية الحقة، أولئك الأفاقون المجرمون القتلة، يتنافسون لوضع ما يسمونه “دستورًا” لدولة الجمهورية العربية السورية!!
هوامش ومراجع:
(1) راد ومير لوكيل – (الدولة والحق). صفحة (21).
(2) المصدر السابق صفحة (22).
(3)، و(4) المصدر السابق صفحة (68) وما بعد.
(5) المصدر السابق صفحة (90).
(6) المصدر السابق صفحة (115).
(7) و(8) المصدر السابق صفحة (165) وما بعد.
(9) (الدولة) – بوردو – صفحة (15).
(10) المصدر السابق صفحة (127).
(11) الدولة والتطور – هانيش صفحة (101).
(12) المصدر السابق صفحة (107).
(13) المصدر السابق صفحة (112).
(14) هارولد لاسكي – (الحرية في الدولة الحديثة) – صفحة (32).
(15) المصدر السابق صفحة (202).
(16) (نظرية الثورة العربية) – د. عصمت سيف الدولة – الكتاب السابع صفحة (72).
(17) و(18) و(19) و(20) و(21) و(22) المصدر السابق صفحة (72) وما بعد.
المصدر: جيرون/29 أغسطس، 2018