
بعد عقود من الاستبداد وحرب مدمّرة، يطلّ العام الدراسي الجديد في سورية كنافذة أمل لإعادة بناء الإنسان قبل الحجر، والسؤال الرئيس: هل تنجح المؤسسات التعليمية السورية في التحوّل من معسكرات للتلقين إلى فضاءات للحرية والمواطنة؟
المناهج من الأيديولوجيا إلى التفكير النقدي
على امتداد نصف قرن، حوّل النظام السابق المدارس إلى أداة لترسيخ عبادة الفرد وتثبيت السلطة، فانتشرت صور الزعيم وشعارات البعث على جدران الصفوف، وغابت الرسالة العلمية الحقيقية، المناهج كانت مشبعة بالتطبيل السياسي والولاء، والمعلمون مهمشون، والطالب مطالب بالحفظ لا بالتفكير. واليوم، لم يعد الإصلاح مسألة إعادة بناء الجدران أو ترميم المقاعد، بل عملية تحرير للوعي وإزالة الشوائب الأيديولوجية البعثية التي علقت بعقول الأجيال. إن إعادة تعريف المدرسة كحاضنة لقيم الحرية والتنوّع والمواطنة هو التحدي الأول أمام أي مشروع إصلاحي.
إصلاح المناهج لا يعني فقط حذف صور الرئيس والشعارات البعثية، بل صياغة رؤية جديدة تولّد روحًا منفتحة على العالم. المطلوب إدراج محاور أساسية مثل:
- حقوق الإنسان والديمقراطية لتكريس ثقافة المشاركة والاختلاف واحترام القانون.
- التنمية المستدامة والوعي البيئي لمواجهة تحديات التغير المناخي وحماية الموارد الوطنية.
- العلوم والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لإعداد أجيال قادرة على المنافسة والابتكار في اقتصاد المعرفة.
- الفنون والآداب والتاريخ الموضوعي بما يعكس التعدد الثقافي والديني في سورية ويكشف الحقيقة بعيدًا عن التزوير.
- ريادة الأعمال والمهارات المهنية لتحويل الشباب إلى صانعي فرص لا طالبي وظائف حكومية محدودة.
إن بناء مناهج كهذه يتطلب تفكيك البنية الذهنية الشمولية الاستبدادية السابقة واستبدالها بثقافة التفكير النقدي والتعلم الذاتي.
المعلم حجر الزاوية في الإصلاح
لا إصلاح بلا معلم مؤهل ومحترم داخل الصف والمدرسة، ومن دونه تبقى المناهج حبراً على ورق. لذلك لا يكفي منحه زيادات مالية متواضعة، بل يجب الاستثمار في تطويره عبر:
- تدريب مهني مستمر يطوّر قدراته التربوية والتقنية.
- دعم نفسي يعالج آثار الحرب والنزوح التي أثرت في قدرته على العطاء.
- توفير مدارس مجهزة بمختبرات ومصادر تعليم رقمية حديثة.
- إشراكه في رسم السياسات التعليمية محليًا ليشعر بملكية العملية التعليمية.
اللامركزية التعليمية شرط للتطوير
أثبتت التجربة أن الإدارة المركزية المطلقة خنقت روح الابتكار، و إصلاح التعليم يتطلب نقل جزء من الصلاحيات الإدارية التعليمية إلى السلطات المحلية والمجالس المدرسية وأولياء الأمور الذين يجب أن يشاركوا في تخطيط السنة الدراسية وتقييم النتائج، في حين تُشرك منظمات المجتمع المدني في الدعم النفسي والأنشطة اللاصفية. هذا النمط يخلق مدرسة نابعة من المجتمع وليست مدرسة تفرضها البيروقراطية الإدارية، لكن نجاح اللامركزية التعليمية يتطلب إطارًا قانونيًا ورقابة فعّالة تضمن الشفافية والمساءلة، بحيث تتم محاسبة المديرين ومراقبة الأداء بعيدًا عن المحسوبيات.
التعليم المهني .. رافعة اقتصادية
في ظل بطالة مرتفعة واقتصاد هش، يصبح التعليم المهني رافعة أساسية للنهوض. يجب توفير برامج مرنة تستهدف المناطق المهمشة، وتدريب النازحين وذوي الإعاقة على مهارات تقنية تتناسب مع ظروفهم، إضافة إلى شراكات مع القطاع الخاص لربط التدريب بسوق العمل. كما ينبغي إعادة الاعتبار للعمل اليدوي والحرفي عبر مدارس صناعية ومهنية تمنح شهادات تؤهل مباشرة لسوق العمل، مع إدخال مساقات لريادة الأعمال لتشجيع الشباب على إنشاء مشاريعهم الخاصة بدلاً من انتظار وظيفة حكومية. هذه المقاربة تعزز الاكتفاء الاقتصادي وتكسر النمط الريعي الذي كرّسه نظام الاستبدادالسابق.
آليات تقييم حديثة وجودة التعليم
إن أبرز مشهد ناقص في النظام التعليمي القديم هو الاعتماد على امتحانات نهاية العام الدراسي التي تقيس الحفظ أكثر من الفهم. وهذا نموذج هش يجب استبداله بنظام تقويم متنوع عبر:
- التقييم المستمر والتكويني، مثل الامتحانات القصيرة المنتظمة، وحلقات المناقشة داخل الصف.
- المشاريع العملية والعروض التقديمية لتقييم مهارات التفكير النقدي وحلّ المشكلات، بدلاً من تكديس المعلومات.
- التقييم الجماعي والعمل التطبيقي ضمن مجموعات طلابية تعزز التعاون والابتكار في التعلم.
- آليات رصد وطنيّة لمراقبة الجودة كهيئة مستقلة تقيس مستوى المدارس وترصد أثر التعليم على التنمية المجتمعية.
هذه الأدوات تمكّننا من خلق بيئة تعلم تقر بالمبادرة وتشجّع الإبداع، والأهم أن تكون هناك مساءلة حقيقية؛ من خلال نشر نتائج المدارس ومحاسبة المقصرين في الإدارة والتدريس، ففي النهاية، إصلاح التعليم رهين بقياس نتائجه بشكل دقيق وشفاف، وليس الاكتفاء ببيانات تبرز أعداد المتفوقين أو معدلات النجاح الشكلية.
التعليم وبناء هوية وطنية جامعة
لقد أثبت التاريخ أن التعليم إما أن يصنع الانقسام أو يُبنى عليه الوطن، وفي سورية الجديدة، لا يمكن أن يكون هناك مستقبل من دون هوية تعليمية جامعة، هذا يعني تعليمًا يحترم التعدديات الثقافية والدينية واللغوية، ويعزز قيم العدالة والمساواة، و يجب أن تتضمن المناهج قصصًا وأمثلةً عن التعايش والتضامن بين السوريين، فالمدرسة هي «أمّ المواطنة»؛ فإذا زرعنا في عقول طلابنا تقدير الاختلاف، سننشر في نفوسهم الانتماء للوطن قبل أي إنتماء ومن جهتنا، علينا كسوريين أن نناقش بصراحة دور المناهج في ترسيخ الهوية: هل نجعلها مرآة تحكي لنا قصتنا الحقيقية لا المزورة ؟ إن صناعة هوية وطنية حقيقية تبدأ من صفوف المدرسة، حيثُ السلام والتسامح والإنسانية يجب أن يكونوا المحور الأول.
شراكات الإصلاح محلياً ودولياً
إصلاح التعليم لا يتم في عزلة، هناك حاجة لشراكات محلية ودولية فاعلة، لكن في إطار رؤية تعليمية وطنية واضحة، المنظمات الدولية مثل اليونسكو واليونيسيف تستطيع تقديم خبرات تقنية وتمويل برامج تدريبية، والقطاع الخاص يمكن أن يسهم في تطوير التعليم الرقمي وربط المخرجات بسوق العمل، في حين يوفر المجتمع المدني دعماً نفسياً وتربوياً للطلاب وأسرهم. لكن يجب ألا تتحول هذه الشراكات إلى مشاريع متفرقة أو أدوات نفوذ خارجي، بل ينبغي أن تخضع لخطة تعليمية وطنية تحدد الأهداف والآجال ومؤشرات القياس لضمان استمرارية الجهود التعليمية.
التعليم المنشود يصنع مواطنًا حرًا
أهم ما في أي خطة لإصلاح التعليم هو الإنسان السوري نفسه. إعادة بناء المدارس يجب أن تقترن بإعادة إعمار النفوس التي مزقتها الحرب. الطلاب الذين فقدوا بيوتهم أو ذويهم يحتاجون إلى دعم نفسي واجتماعي وبرامج دمج خاصة، بما يشمل النازحين وذوي الإعاقة والأيتام. التعليم المنشود لا يصنع موظفًا تابعًا، بل مواطنًا حرًا يعرف حقوقه وواجباته، قادرًا على العيش بكرامة والمشاركة في إعادة بناء وطنه،الاستثمار في تعليم هؤلاء هو الضمانة الوحيدة لمنع ضياع جيل كامل.
التعليم في سوريا أمام خيار مصيري: إما أن نجعل التعليم قاعدة لبناء مواطن مسؤول يفتح طريق الحرية والديمقراطية، أو نسمح بإعادة إنتاج الاستبداد عبر مناهج جديدة بأدوات قديمة، الخطوات الصغيرة التي بدأت، من حذف رموز النظام السابق إلى تدريب المعلمين، مشجعة لكنها غير كافية من دون إرادة وطنية موحّدة وجدول زمني صارم ومتابعة دؤوبة. فإصلاح التعليم ليس ترفًا، بل شرطًا لإعادة بناء الدولة والمجتمع معًا، وإذا عادت المدرسة إلى جوهرها الحقيقي كفضاء للعلم والحرية، فسيكون ذلك حجر الأساس لسورية جديدة تحترم إنسانها وتمنحه مستقبلًا يستحق الحياة.
المصدر: تلفزيون سوريا