
أعلن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات نتائج استطلاع رأيٍ نفذه في سورية، بالتعاون مع المركز العربي لدراسات سورية المعاصرة في دمشق، وبوصفه جزءاً من استطلاعات المؤشّر العربي لعام 2025. وتستدعي نتائج الاستطلاع النظر فيما تحمله من دلالاتٍ ومواقف، كونها أول مؤشّر يرصد توجهات السوريين في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ إعادة بناء الدولة السورية ورسم ملامح مستقبلها.
بداية، هذه هي المرّة الأولى أيضاً، التي يعبّر فيها آلاف السوريين بحرّية عن آرائهم وهمومهم وتوجّهاتهم حيال مختلف القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تشغل بالهم، ومن دون توجّس أو خوف من الاعتقال والملاحقة. وأظهرت نتائج الاستطلاع أن الرأي العام في سورية متعلق بالأمل بمستقبل بلاده، ومتفائل بتحسّن أوضاعه على مختلف الصعد، على الرغم من التحديات الأمنية، ودعوات الانفصال التي يطرحها بعضهم، ومن التهديدات والاعتداءات الإسرائيلية، فضلاً عن الشروخ في الجسد السوري. ومن ثم، تقدّم نتائج الاستطلاع صورة تعاكس تماماً ما يُتداول في العديد من وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تقدم صوراً مختلفة عن السوريين وبلادهم.
يلفت الانتباه حجم عينة المستجيبات والمستجيبين لهذا الاستطلاع، التي بلغت 3690 شخصاً، بحيث يمكن اعتبارها تمثل شريحة واسعة من السوريين، جرى اختيارها “بطريقة طبقية عنقودية متعدّدة المراحل”، كي يشمل تمثيلها مختلف تكوينات المجتمع السوري الاجتماعية والاقتصادية في جميع المحافظات. إضافة إلى حداثة الاستطلاع الذي نُفّذ من 25 يوليو/ تموز إلى 17 من أغسطس/ آب 2025. وهي فترة تفرض مواجهة صعوبات رصد آراء المستجيبين، بالنظر إلى توزّع بعضهم في مناطق تسيطر عليها قوى الأمر الواقع، وإلى الظروف الحسّاسة التي تمرّ بها على خلفية الأحداث والانتهاكات التي شهدتها مناطق الساحل قبل أشهر، وما شهدت محافظة السويداء أخيراً.
ترفض الغالبية العظمى من السوريين الاعتراف بإسرائيل، ولا تقبل بأي تسوية معها من دون عودة الجولان المحتل
ليس مستغرباً أن يرى 56% من المستجيبين أن الأمور تسير في الاتجاه الصحيح، لأن إسقاط نظام الأسد البائد كان أمراً عظيماً بالنسبة إليهم، أفضى إلى خلاصهم من حواجز أجهزة الأمن التي كانت تقطع أوصال مدنهم وبلداتهم، وتبتزّهم، وتهدّد حياتهم، إلى جانب انفراط عقد مجموعات الشّبّيحة، وما كان يُعرف بالحرس الوطني، وهروب رموز النظام وأزلامه، فضلاً عن إطلاق “سراح المعتقلين، وتحسّن الأوضاع الأمنية، والاتجاه نحو الاستقرار، ورفع العقوبات”. ولذلك كان طبيعياً أن يُعبر ما بين 80% و94% عن مشاعر الأمل والفرح والسعادة بعد إسقاط النظام. ولا يعدم الأمر وجود 20% منهم تنتابهم مشاعر قلق أو عدم يقين، خصوصاً بعد الانتهاكات والمجازر التي ارتكبت خلال أحداث الساحل والسويداء. ويمكن تفهم أن 57% من المستجيبين يرون أن الوضع السياسي جيد جداً أو جيد، فيما عبّرت غالبيتهم عن معاناتهم المعيشية، لأن الوضع الاقتصادي سيئ جداً، الأمر الذي يفسّر رغبة 27% من السوريين في الهجرة لأسباب اقتصادية وأمنية، حيث يكشف الاستطلاع أن 42% من أسر المستجيبين تعيش في حالة فقر وعوز، ودخلهم لا يكفي لتغطية حاجاتهم الأساسية، فيما يعيش قسمٌ منهم حالة كفاف، وأغلبية الأُسر الفقيرة تعتمد على الاستدانة والمعونات من المعارف في سد حاجاتها الأساسية، خصوصاً تلك الأسر التي لا تصل إليها تحويلات مالية من أقاربها في الخارج.
يقدّم الاستطلاع صورة سورية ما بعد نظام الطاغية، يجسّدها تفاؤل بمستقبل البلاد، ونضج سياسي يقابله وجع عام من تردٍّ اقتصادي. والصورة ليست وردية، إذ يقرّ 85% بانتشار الخطاب الطائفي، ويرى 83% التمييز المذهبي واقعاً يوميّاً، ومع ذلك هناك رغبة عميقة في التعايش ضمن الإطار المسكوني المشترك بين جميع التكوينات والأطياف. ولعل ما ينغّص عيش السوريين تفشي حالات من العوز، والفقر، واعتماد على مساعدات الخارج. وعلى الرغم من المفاوضات التي تجريها السلطة مع إسرائيل، ترفض الغالبية العظمى من السوريين الاعتراف بإسرائيل، ولا تقبل بأي تسوية معها من دون عودة الجولان المحتل.
ليس مستغرباً أن يرى 56% من المستجيبين الأمور تسير في الاتجاه الصحيح
يتوقف الاستطلاع عند قضية الديمقراطية، بوصفها أكثر قضية حساسة في المرحلة الراهنة في سورية، يرى 61% من السوريين أن النظام الديمقراطي الأفضل للحكم في بلدهم، بعكس ما يشاع في بعض الأوساط السياسية، إذ تشير هذه النسبة إلى توق السوريين إلى الديمقراطية بوصفها أفضل الأنظمة السياسية، لكن الأهم أن غالبية السوريين تعنيهم الديمقراطية بالافتراق عن المواقف الأيديولوجية. كما أن أكثر من نصف المستجيبين يقبلون بتسلّم السلطة من حزب سياسي لا يتفقون معه، في حال حصوله على عدد أصوات يؤهله إلى ذلك ضمن انتخابات حرّة ونزيهة. ويترافق ذلك بوعي سياسي متقدّم، يتجلى بتأييد تأسيس أحزاب سياسية جديدة، إلى جانب التيارات الوطنية السورية والتيارات الإسلامية، وتأييد وجود تيارات قومية عربية، وليبرالية مدنية، ما يشي بأن غالبية السوريين لم تتأثر بالتصحّر السياسي الذي أراد نظام الأسد فرضه على المجتمع السوري.
يدخل استطلاع الرأي في سياق تقليد دأب عليه المركز العربي، لكنه في الحال السورية كان متعذّراً، أو بالأحرى محرّماً، في العقود السابقة. والمأمول أن تنتهجه مراكز البحوث والدراسات السورية، كونه يسهم في استجلاء الرأي العام السوري حول مختلف القضايا السياسية والاجتماعية، وفي تحقيق قدر أكبر من المشاركة المجتمعية العامة في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ سورية ما بعد نظام الأسد. والأمر برسم السلطة الجديدة، كي تأخذ بما عبّرت عنه الأغلبية حول عدم نجاحها في ضمان التعدّدية السياسية، وإنهاء التمييز بين المواطنين، وتطبيق مبدأ المحاسبة بحق كبار المسؤولين. إضافة إلى انتشار الفساد المالي والإداري في البلاد، خصوصاً بعد أن أصبح السوريون، رغم فقرهم المدقع، أكثر اتصالًا بالعالم.
المصدر: العربي الجديد