
أحد أبرز معالم الثورة الصناعية الرابعة ، والذكاء الاصطناعى، تحول الحياة الفعلية فى أحد أبرز وجوهها إلى الرقمية والتأثر بما يجري فى فضاءاتها التواصلية فى القضايا العامة والسجال حولها، وفى طرح قضايا الذات، وجروحها، والألم الذي يجتاحها ، ومشاكلها . تبدو الذات الجريحة فى الواقع الفعلي محاصرة بعديد من القيود حول تعبيرها عن حضورها الوجودي ، وعزلتها، وتفكك بعض روابطها الاجتماعية، وانغماسها فى عالم الاستهلاك المكثف الذى بات يمثل منفي نسبيا للذات فى تطلاعاتها للإستهلاك السريع للسلع والخدمات، ويزداد الألم والنفي للذات من عدم قدرة بعض من مليارات البشر، على تلبية دوافعهم هى ورغباتهم فى استهلاك الجديد والمتنامي والسريع من السلع المتجددة، ومعها الخدمات التى تقدمها الشركات الكونية الضخمة، والمسيطرة على عالم النيوليبرالية الرأسمالية فى الدول الأكثر تقدما، والمتوسطة ، والدول المعسورة التابعة فى جنوب العالم.
نفي النيوليبرالية الرأسمالية المتوحشة للذات المحاصرة بثورة الاستهلاك الفائق، وتأثر الليبرالية السياسية بقوة الشركات الكونية، وعلى بعض من الحريات العامة والفردية أدى إلى تزايد الفجوات، وعدم الثقة بين الفرد والجماعات الناخبة ، وبين المؤسسات الديمقراطية الغربية ، وتحول المؤسسات السياسية إلى اعتماد بعضها علي الدعم والتمويل من بعض كبار المليارديرات على نحو ما نشهد فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وللحزبين الكبيرين الجمهوري والديمقراطي، فى انتخابات الكونجرس، وأيضا فى بعض الدول الأوروبية الغربية.
من ثم تداخلت وأثرت مصالح هذه الشركات الرأسمالية النيوليبرالية على السياسة، والسياسيين والأحزاب، بل وتجلت قوة بعض هذه الشركات على تطويع الواقع السياسى، والطبقات السياسية الحاكمة والمعارضة، وأيضا على تأثيرها علي توجهات بعض الجماعات الناخبة، والأفراد.
تأثرت التوجهات السياسية بقوة بحرية الاستهلاك السريع والمتنامي والمتغير للفرد/ الناخب، الذى تمركزت حريته على الاستهلاك المفرط ان استطاع إليه سبيلا ولو بالإقتراض، والذي تمركزت حريته علي عالم السلع والخدمات والتشيوء ، وتحوله إلى حالة سياسية سلعية فى الحياة السياسية، وآلياتها.
بعض من الهامشية السياسية للفرد تجلت داخل الأحزاب السياسية الكبرى وخارجها، وأدت إلى تحول حريته فى الانتخابات الرئاسية، أو البرلمانية، إلى لحظة زمنية فائقة السرعة، تتمثل فى اختياراته داخل قاعات الاقتراع كل فترة وجولة انتخابية.
من هنا لم يُعد تسليع الفرد وحرياته السياسية، محضُ حالة مرتبطة بالانتخابات العامة، أو المحلية، وإنما إلى بعض من اللامبالاة النسبية بالسياسة ومؤسساتها التقليدية ، وآلياتها، ولكن تزايدت فجوات الثقة والمصداقية بدور بعضها فى الحياة السياسية.
ساهمت الثورة الرقمية والذكاء التوليدى، فى بعض من تحرير رأى الفرد الفعلى/ الرقمى من قيود الواقع السياسى، من خلال انفجاراتبعض من الذوات والجموع المنفية نسبيا فى عالم الاستهلاك المكثف والمسلعة سياسيا واجتماعيا إلى الفضاءات الافتراضية، لكى تعبر عن آراءها فى السياسات، والقرارات، ووقائع الحياة اليومية من خلال منشوراتها، وصورها، وفيديوهاتها الطلقة الوجيزة جدا على وسائل التواصل الاجتماعي.
تبدو الصور أحد أهم تعبيرات الذات شبه المنفية على الواقع الفعلى، عن حضورها فى الحياة، بل وجودها ذاته . تحولت الذات من الفاعلية والوجود الفعلى كإرادة وفعل، وتأثير من الواقع الفعلى، وتمثيلاته واستعراضاته إلى الوجود الافتراضي عبر الصور والفيديوهات الوجيزة جدًا. الصورة والفيديو ليس فقط أداة لكسب المال عبر التفضيلات الرقمية، من الشركات الرأسمالية الرقمية الكونية، وإنما أيضا لبعض من مليارات البشر للتعبير عن الأنا المحاصرة نسبيا فى واقع متحول، وملتبس. ويبدو مستقبله يتسم ببعض من الغموض فى التحول نحو ما بعد الإنسانية.
بعض من التمثيلات الذاتية عبر الصور، والفيديوهات والمنشورات لا تعكس حقيقة الذات فى وجودها الفعلى، وإنما تمثيل لها على المسارح الرقمية، من خلال توظيف الذكاء الاصطناعى التوليدي فى إنتاج صورها، وفيديوهاتها، ومنشوراتها التي تعاد صياغتها وفق رغبات أصحابها.
تبدو الذات فى بعض وجوهها الرقمية، تعبيرا عن اغتراب مركب فى الواقع، وفى المتخيل الرقمي الذى تتم صياغته عبر الذكاء التوليدى.
يتم توظيف الذكاء الصناعى فى اغتراب الذات الفعلية المحاصرة، من خلال طرح الأسئلة عليه، واستخدام إجاباته فى كل المجالات على أنها، هى إجابات الفرد الرقمى/ الفعلى، وثقافته وذكاءه، بقطع النظر عن مفارقة ذلك لعقله، ووجدانه، وتفكيره.
لا يقتصر بعض الاغتراب الرقمى والفعلى على الصور، والفيديوهات، وإنما فى استخدام الذكاء التوليدي فى الفنون والأدب، والسينما، والفن التشكيلى، سواء أكان الفرد يعمل فى هذه المجالات كمبدع، أو كاتب، أو ممثل فقط، وإنما امتد ذلك إلى تأليف الذكاء التوليدي لبعض والقصص القصيرة، والروايات، والشعر، وفى التصوير التشكيلى.
هنا يبدو الذكاء التوليدي صانع هذه الأعمال الفنية، والفرد الذى يستخدمها كليا، أو جزئيا غائبا كفعل إبداعى، ويتحول إلى ذات بديلة، ومغايرة.
تحولت الصور والفيديوهات على الحياة الرقمية إلى حالة عامة، لاسيما لدى الفنانين والفنانات، والمطربين والمطربات والممثلين، والممثلات، خاصة مصريا وعربيا، تعبيرًا عن حضورهم الرقمى، بل والوجودي، بديلاً عن إبداعهم الفعلى نظرًا لأن بعضهم تجاوزته السينما، والموسيقى والمسرح والأذواق الفنية المتغيرة للأجيال الجديدة، ونمط الاستهلاك والتمثل الفنى لدى هذه الأجيال، ونمط تفضيلاتها فائق السرعة، والذى يؤدى إلى إزاحة الأجيال الأكبر سنا، وأيضا لمن قاموا بعدد قليل من الأعمال، وتجاوزتهم شركات الإنتاج السينمائية، أو الحفلات العامة. من ثم أصبح وجودهم الرقمى هو دلالة استمراريتهم على الحياة الرقمية لا الفعلية.
الأجيال الأكبر سنا، وشهرة فى الماضى لم يُعد لديهم حضور فعلى، وتحول حضورهم إلى الحياة الرقمية عبر الصور، أو مشاكل الزواج والطلاق، أو أحاديثهم عن ماضيهم الفني، وزيجاتهم، وآراءهم فى زملاء لهم رحلوا إلى العالم الآخر وعلي بعض من الأثارة في ذكرياتهم . هذا العالم الافتراضي، والذكاء التوليدى بات متخما بالترهات، وثقافة الكذب والتفاهات، والأحكام الأخلاقية والقيمية المرسلة، ومعها الانطباعات السريعة . غالب الأفراد الرقميين/ الفعليين يطرحون آراء فى زعامات تاريخية، أو مراحل أو تاريخ البلاد من القديم إلى الحديث والمعاصر، دونما معرفة تاريخية، وإنما محض آراء مرسلة لا قيمة تاريخية أو علمية لها، وإنما من خلال الأحكام العامة الأخلاقية مثل تقييم بعضهم الإيجابى أو السلبى لأسرة محمد على، وإسماعيل باشا، والمرحلة شبه الليبرالية، أو الموقف من زعامة عبدالناصر وسياساته، وأيضا الأحكام الإيجابية المرسلة لعصرى السادات، ومبارك، أو ما حدث فى انتفاضة يناير 2011 الجماهيرية. أو الموقف من بورقيبة، وتمجيده، أو مرحلة بن على، وما بعد فى ظل حكم جماعة النهضة فى تونس.
أحكام مرسلة ورغائبية وقيمية خارج التاريخ . بات التاريخ موضوعا للعب السياسى للأفراد، والجماعات الرقمية، وبات موضوعا للهو، والسخرية، والكوميديا، ولا يقتصر ذلك على بعض العاديين وإنما امتد إلى بعض المثقفين والأكاديميين، والوزراء السابقين، والمعارضين . بات التاريخ ووقائعه ورموزه وشخصياته موضوعا لمسرح رقمي وتلفازي يبدو فى بعض وجوهه عبثيا لا علاقة له بالواقع التاريخي.
هذا المسرح الساخر والعبثي الرقمي، يمثل بعض شكل من أشكال الاغتراب الوجودي، وسعى بعضهم إلى تمجيد بعض الرموز، أو الوقائع التاريخية، وتمثلها في سبيل الظهور والحضور الرقمى، والتلفازي، من خلالها، أو من خلال روايات ذاتية عن بعض ما شكلته من كوارث، أو أزمات وطنية.
باتت الحياة الرقمية تعبيرا فى بعض وجوهها عن حالة من الفوضى العقلية، الالتباسات، والأهم حققت بعض من الحرية والفوضى معا، لكنها حرية مراقبة من الشركات الرأسمالية الرقمية النيوليبرالية، وبرامجها فى المراقبة، وتوظيف البيانات الضخمة وبيعها، ولبرامج المراقبة السياسية والاستخباراتية، التى تبيعها بعض الشركات الرقمية – وبعضها إسرائيلية وغيرها – للدول وحكوماتها، ومن ثم باتت بعض الحريات الرقمية مراقبة، ويتم توظيفها فى تشتيت الاهتمامات، حول القضايا من الرئيسى إلى الثانوي والهامشي ومن الجاد إلي التافه.
حريات رقمية فى عالم رقمى مراقب من عديد الأطراف، ومن ثم باتت فيما يبدو حرية اللا حرية لكن ثمة نمط من المراقبات من الأفراد والجماعات مضاد تجاه الحكومات ووزاراتها وأجهزتها ، وتجاه الجماعات والأفراد ممن ينتهكون القوانين ، اويمارسون الجرائم في ظل أجهزة المراقبات الحكومية المنتشرة في كل مكان ،اننا إزاء عالم من الرقابات المتضادة ، حياة تبدو تحت السيطرة . في ظل الشعبويات التسلطية العربية مابعد الربيع العربي المجازي وإخفاقاته ، تبدو نظمه الرقابية الرقمية متمددة رقميا وبالأساليب التقليدية والرقابات المباشرة او الهاتفية . من هنا تفاقمت القيود والضغوط علي المجال العام المحاصر ، ومعه الحريات العامة والفردية الفعلية والرقمية ، وعودة ظاهرة موت السياسة في المنطقة ، ومعها هيمنة السلطات الشعبوية التسلطية ، والنظم الاستبدادية علي الشعوب والأفراد من خلال إشاعة رهابُ الخوف . من هيمنة الخوف من المعتقلات والسجون ، إلي رهابُ الفوضى حال اللجوء إلي الاحتجاجات الاجتماعية ومحمولها السياسي ، يبدو الصمت الجماهيري ، إزاء القضايا الاجتماعية الاقتصادية ، وعسر الحياة اليومية وتفاقم تكاليفها من خلال ظواهر التضخم ، وايضاً إزاء القضايا الإقليمية ومنها حرب الإبادة والتجويع من الدولة الإسرائيلية الاستيطانية لسكان قطاع غزة والضفة المحتلين . يمتد رهابُ الخوف من ان تؤدي الاحتجاجات ايا كانت الي فوضي ، والي نزعات طائفية ، وخاصة في ظل تهديدات تمدد الحرب علي غزة الي تهديدات نتنياهو ووزراءه من اليمين المتطرف بتغييرات في الإقليم الشرق أوسطي من خلال اللغة التوسعية ذات المحمول التوراتي الأسطوري . من ناحية أخري تفكك بعض الدول العربية تحت وقع وتمدد الصراعات والحروب الأهلية ، وتدخل أطراف عربية وإقليمية في دعم أطرافها كما حدث في سوريا ، واليمن ، والسودان ، وليبيا . في دول اليسر الرقابات الفعلية والرقمية صادرت السياسة والحرية ، لكن تلعب حرية الإستهلاك الفائق دورها في انغماس مواطنيها في عوالم الإستهلاك والتشيوء ، وهو ما خلق حالة من الأغتراب الفردي وشبه الجمعي من خلال ثورة السلع والخدمات ! حالات من رهابُ الخوف الفعلي والمتوهم ادي إلي وسّنً سياسي واغتراب ، إلا أن الحياة الرقمية المراقبة باتت مجالا عاما لتفريغ فوائض الغضب والاحتجاج الفردي اومن خلال بعض الجماعات المعارضة المنظمة او العشوائية ، وفي ممارسة الضغوط علي أجهزة السلطة في دول العسر . حالات صمت محمولة علي الخوف ومحاولات كسره رقميا، إلا انه صمت يحملُ غموضا، واحتمالات غاضبة، ومألاتها بين الفوضى والاضطراب والتغيير.
المصدر: الأهرام