
في العراق، هذه الأيام، حديث كثير عن ارتكابات المؤسسة القضائية التي يفترض فيها إقامة العدل وإقرار الحقوق، حيث العدل، كما أفتى ابن خلدون، هو أساس المُلك، وفساد القضاء يفضي بالدولة إلى خرابها، وبالتالي، إلى نهايتها، فكيف إذا حصلت تلك الارتكابات في البلاد التي شهدت تدوين أول قوانين الكون في “شريعةٍ” أتقن صنعها الإمبراطور البابلي النبيل حمورابي، واستلهمت البشرية منها كل ما أنتجته من قوانين على امتداد عشرات القرون؟
لا بأس أن نذكّر هنا بمروية لأصدقائنا الإنكليز عن رئيس وزراء بريطانيا، ونستون تشرشل، الذي قاد بلاده في الحرب العالمية الثانية عندما قيل له إن الحرب أمعنت في البلاد خرابا، سأل: وكيف حال القضاء؟ قيل له إن القضاء بخير، ولا يزال يحكم بالعدل، وينصف من ظلم، عندها أطلق مقولته التي أصبحت مثلا: “ما دام القضاء بخير فالبلاد بخير أيضا”. ولكن بلاد الرافدين التي دوّنت أولى الشرائع لم تعد في خير مذ قدّر لها أن تسقط في عهدة “الفوضى الخلاقة” التي اخترعتها الولايات المتحدة، واستثمرتها “الجمهورية الإسلامية”، وعانى منها العراقيون زمناً مديداً، وأنتجت حصيلة كبرى من الخطايا والآثام في كل ميادين الحياة والمجتمع..
الميدان الأخير الذي كان يمكن أن يحتفظ بقدر من النقاء كي يضمن الحكم بالعدل، و يقتصّ للمظلومين من الظالمين هو ميدان القضاء، لكنه استسلم هو الآخر، على ما يبدو، للضغوط والمغريات، وانحنى أمام سلطان السياسة والسياسيين، وقد أوقعه هذا المسلك في عديد خطايا وارتكابات جعلته عرضة للشكوك والاتهامات، أخير ذلك الحكم “المستعجل” الصادر في قضية الدكتورة بان زياد طارق التي تحولت إلى “قضية رأي عام”، إذ رأى العراقيون في الحكم ظلماً فرضته ضغوط من مسؤولين كبار أرادوا غلق القضية بسرعة، خوفاً من افتضاح وقائع تقلب الطاولة عليهم، والبلاد على أبواب انتخابات برلمانية قد تغيّر الموازين، والا كيف جرى “سلق” مجريات التحقيق، وإصدار القرار في بحر 48 ساعة فيما يفترض أن تدرس الوقائع، وتمحص بعناية، خصوصاً وأن حدودا فاصلة بدت شاخصة، لكثيرين من خبراء التحقيق الجنائي والمختصّين بتحليل المبرزات الجرمية، بين فرضية قتل الضحية عمداً، كما تقوله الشواهد والأدلة، وفرضية انتحارها كما يزعم القرار “المستعجل” الهادف إلى ليّ عنق الحقيقة. وثمّة إشاراتٌ مطروحةٌ على مواقع التواصل عن إنفاق ملايين الدولارات من جهات معلومة، وصولاً إلى ما هو مطلوب، ولإنجاز تسوية غامضة زادت الحال غموضاً، وقد حقّقت الواقعة الملتبسة صدى دولياً لافتاً، حيث وصفها مركز جنيف الدولي للعدالة “جريمة اغتيال بدم بارد”، مشيراً إلى “تدخّلات سياسية خطيرة”، ومطالباً بتشكيل “لجنة وطنية عليا تضم خبراء مستقلين لكشف الحقيقة”، كما دفع ذلك رجال قانون ناشطين في أوروبا لتقديم التماس إلى محكمة الجنايات الدولية طالبين تدخّلها في الأمر، وأعلنت ناشطة أميركية من أصل عراقي تعمل في إدارة ترامب عن تبنّيها القضية والعمل على إشهارها.
فساد القضاء يفضي بالدولة إلى خرابها، وبالتالي، إلى نهايتها
أعادت قضية المغدورة بان زياد إلى الأذهان جملة ارتكابات في قضايا مماثلة لعبت في تقرير الحكم فيها ضغوط وتهديدات مارستها المليشيات والمافيات المتحكمة، منها واقعة مقتل الخبير الأمني هشام الهاشمي على خلفية فضحه الأدوار المشبوهة التي تلعبها المليشيات في الحياة العراقية، وقد حكم على القاتل الذي اعترف بجريمته بالإعدام، وفي خطوة مثيرة للجدل تم نقض الحكم، وأطلق سراح القاتل بضغط من مليشيا “كتائب حزب الله” التي ينتسب إليها.
وهناك أيضا أكثر من قضية تخص ناشطات الحراك النسوي اللواتي تعرّضن للاغتيال بأيدي المليشيات واحدةً بعد الأخرى، وقيدت تلك الجرائم ضد مجهولين، مع أن كل شيء كان معروفاً عن الجناة والجهات التي أمدّتهم بالسلاح والمال، لكن القضاء تنكب عن أداء واجبه، وأغلق ملفات التحقيق.
ومثل هذا يقال عن جرائم طاولت عشرات الصحافيين والكتاب والناشطين السياسيين الذين لم يلاحق القضاء قتلتهم. … كانت هذه التداعيات قد دفعت، في السابق، مسؤولاً أميركياً رفيعاً، هو عضو الكونغرس، مايك والتز، للتنبيه إلى أن القضاء في العراق يحمي مصالح إيران، ويساعد المليشيات الموالية لها، ودعا الكونغرس إلى إصدار تشريع يمنع ذلك، كما نشر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى تقريراً موثّقاً عن سوء استخدام النظام القانوني العراقي، ووضعه في خدمة إيران.
مع كل هذه الإدانات، ينبري رئيس مجلس القضاء الأعلى، فائق زيدان، ليبلغنا أن “لا مجرم في العراق يفلت من العقاب”، يا تُرى.. هل هو يسخر منا أم هو يكابر؟
المصدر: العربي الجديد