
عرض جميل، وجذاب، ومغر، يقدمه وضاح خنفر في إطار الجهود التي يبذلها لتقديم رؤية تاريخية جديدة تجمع عوامل التأثير والتشكيل لأحداث ووقائع المنطقة والعصر، وقد يجد هذا العرض تجاوبا قويا في هذه المرحلة حيث نتابع جهودا حثيثة من غير جهة ولأهداف مختلفة في تعظيم شأن الشام، ومن حق الشام أن يعظم شأنها، لكن مع ملاحظة أن الشام هنا ـ أي الشام الواجب تعظيمها ـ ليست “سوريا الحديثة”، وإنما بلاد الشام التي تضم فيما تضم فلسطين ولبنان والأردن.
لكن العرض على جماله لا يعبر عن حقائق، وإنما يقدم تفسيرات لوقائع مستندة إلى رؤية مسبقة يعتمدها:
1ـ صحيح تماما أن من رسموا خرائط “سايكس – بيكو”، كانوا يجهلون المنطقة كليا أو جزئيا، لكن السؤال هنا، هل سيكون الأمر مختلفا ـ بالنسبة لمصير المنطقة ـ لو كانوا على معرفة تامة بالمنطقة؟
لعلهم لو كانوا كذلك لكان تخطيط وتقسيم المنطقة أشد وأنكى، الفارق يحدث حينما يخطط للمنطقة أهلها، أو لأجل أهلها ولمصالحهم، وهنا تصبح المعرفة شرطا لبناء حيز جغرافي متناغم مع الديموغرافيا، والثقافة، وتوزع الموارد، وطرق التواصل. الخ. لكن من رسموا خرائط “سايكس – بيكو”، ومن طلب ذلك، لم يكونوا من هذا الصنف.
والذهاب إلى أن الذين صنعوا “سايكس ـ بيكو” فشلوا في مشروعهم لأن هذا المشروع لم يولد شيئا مستقرا يحقق النمو والتقدم!، فيه الكثير من الاستعجال، لأن من صنعوا هذه الخرائط نجحوا نجاحا باهرا في تحقيق أهدافهم، التي لم يكن منها على الاطلاق النمو والتقدم، وإنما التخلف والتبعية.
2ـ الجغرافيا صنع الله في الأرض، والتاريخ صنع الإنسان في الجغرافيا، وهذه فكرة جذابة يعرضها خنفر، وحين يطبق هذه الفكرة على حالنا يشير إلى تعطل الشطر الخاص بفعل الإنسان في الجغرافيا. فيقول: توقف فعل التاريخ لأن الذين رسموا هذه الخرائط فعلوا ذلك لمصالحهم، فانقطع سيل التاريخ في الجغرافيا.
وهنا يطرح السؤال أليس هؤلاء الذين صنعوا ذلك يدخلون في إطار “صنع الإنسان في الجغرافيا”، أم أن المقصود بكلمة الإنسان هنا هو “الإنسان المنتمي إلى الأمة والمنطقة وصانع تاريخها”، وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك حتى يستقيم المعنى، فإن معادلة “الجغرافيا والتاريخ” تحتاج إلى تعديل أو توضيح يبين على نحو لا يحتمل اللبس المعنى المقصودة بكلمة “الإنسان” في هذه المعادلة، وحين يتم هذا التعديل فإن سياق المحاضرة يتغير.
3ـ ثم إن الجغرافيا وهي عنصر مهم جدا في تشكل الدول، لم يكن لها أثر فعال في تشكل الدول الامبراطورية، ولو كانت كذلك ما قامت الدولة العثمانية، ولا قبلها الدولة العباسية، أو الأموية، ولما قامت الإمبراطورية الرومانية، وغيرها من الامبراطوريات.
مهم أن ننتبه إلى أن الحواجز الطبيعية وهي جزء من مفهوم الجغرافيا: الأنهار، السلاسل الجبلية، الصحاري، وحتى البحار، يمكن اعتبارها أدوات فصل للأمم بعضها عن بعض، وحماية لها، ويمكن اعتبارها أدوات وصل وتواصل، وطرق ارتباط، وكانت عبر التاريخ هكذا وهكذا.
المسافات، البعد عن المركز، صعوبة التواصل، هو ما ولد الأشكال المختلفة لبنية الدولة الواحدة، وأوجد الأقاليم شبه المستقلة، والتي استقلت لاحقا لتشكل دولا مستقلة. هذا الأمر موجود في تواريخ كل الأمم والدول الإمبراطورية.
مهم هنا دراسة أثر العقيدة من جهة، وأثر اللغة والتماسك الاجتماعي والحضاري في الدول والمجتمعات المفتوحة، وتأثريها في شكل وعلاقات مكونات الدولة الجديدة. وأثر القرب والبعد عن مركز الدولة.
4ـ في مراحل سابقة طرح مفكرون سؤالا يتصل بتفاعل المجتمعات المفتوحة مع الفتح الإسلامي والدولة المتخلفة عنه، وقد صيغ السؤال على النحو التالي:
لماذا تعربت دول دخلها الإسلام، ولم تتعرب دول أخرى دخلها الإسلام؟
لماذا تعربت مصر وبلاد المغرب؟ ولم تتعرب إيران التي دخلتها اللغة العربية لكنها لم تستقر فيها كثيرا؟ وكذلك لم تتعرب الدولة العثمانية؟
والسؤال هنا شديد الأهمية في التعرف على عوامل تشكيل الدول عبر التاريخ، وأعتقد أن محاولة تفسير هذا التشكل استنادا إلى عامل واحد، أو حصرها في عاملين فيه كثير القسر، وعلى الباحث ألا يحاول ذلك، عليه أن يكتشف العوامل الرئيسية التي تعبر عن “سنن كونية”، والعوامل الواعية التي تعبر عن إرادة الانسان وتأثره بمحيطه الجغرافي والحضاري، والعوامل العارضة التي تعبر عن التدخل غير القويم، أو غير الإيجابي للإنسان، ثم يدرس التفاعل بين هذه الأنواع من العوامل في الزمن المحدد.
في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ المنطقة، تاريخ الأمة ومستقبلها مهم أن نمتلك رؤية “تاريخية ـ موضوعية” لمعنى الأمة وعناصر تكونها، وطريق بناء دولتها.
5ـ وفي إطار امتلاك هذه الرؤية من المهم أن نحدد المفاهيم والمصطلحات المستخدمة، ما المقصود بالأمة؟ وما العلاقة بين الدولة والأمة؟ وما العلاقة بين الدولة والمجتمع والأمة؟
يعرض الباحث إلى انسياح قبيلة بكر العربية إلى حيث يعطي محاضرته (غازي عنتاب) دون الإحساس بوجود فواصل وحدود، حتى عرفت منطقة توطنهم باسمهم “ديار بكر”، ما علاقة هذا ببناء الدولة، أو بتحديد مفهوم الأمة. الباحث هنا لا يتحدث عن مفهوم “أمة العقيدة”، طبعا ولا يغفلها، لكنها ليست إطارا للحديث والبحث والالتزام.
إذن ما الذي يحدد مفهوم الأمة والدولة والمجتمع الذي نتطلع لبنائه وتحريكه. يجب الجواب على هذا التساؤل ليكون للحديث معناه وحضوره.
كل الحديث عن الشام والطبيعة الخاصة لأبناء بلاد الشام، والعبقرية التي يبدونها، وأثر التاريخ الموغل في القدم على تربيتم ونفسيتهم، كل هذا مما يحتاج إلى مراجعة حقيقية، ليس لنفي مميزات أهل بلاد الشام، وإنما لنضع المميزات الخاصة في إطارها الصحيح، وفي تكاملها مع غيرها من مكونات المجتمع. ولندرك أيضا أن كل مكون من مكونات أمتنا، وكل إقليم من أقاليمها له مميزاته، وحتى ننظر الى هذه المميزات في إطار التكامل وليس في إطار التمايز والتميز.
6ـ هل هناك تفسير خاص لبعث جيوش أبو بكر إلى الشام يدعم ما ذهب إليه الباحث؟ حين التمحيص لا يظهر ذلك، العراق والشام كانتا هدف جيوش أبو بكر من يوم أن استقر حال جزيرة العرب، وانتهت حروب الردة، وقد وفر لفتحهما ما أمكنه مع مقاتلين وإمكانات وتوجيهات، وتحققت بوادر الفتح الأولي للعراق في 11 هجري وانحسمت في القادسية في شعبان من العام 15 هجري، وتحقق ذلك للشام بداية في 12 هجري وانحسم الأمر في معركة اليرموك في رجب 15 هجري.
أما توجه جيوش الفتح إلى مصر فلم يكن هذا ممكنا إلا بعد فتح فلسطين، لأنها طريق العبور إلى مصر، وقد كان.
7ـ أنا لدي حساسية خاصة تجاه القصور المنتشر في الحديث عن سايكس بيكو وما فعلته في وطننا، وأرى أننا حين نشدد الحديث على هذه “الاتفاقية / المؤامرة”، التي ولد في رحمها المشروع الصهيوني، ننسى أن كل المغرب العربي ومعه مصر سقط قبل وخارج إطار “سايكس ـ بيكو”، وأن “سايكس ـ بيكو” كانت خاتمة المطاف، وأن المسألة متعلقة بالتوجه الغربي الامبريالي تجاه أمتنا، وهو توجه لم ينقطع تاريخيا، ولم ينقطع جغرافيا.
8ـ لا شك أن نظاما عالميا جديدا بدأ يطل، ملامحه الأولى تظهر مكانة الصين، وروسيا التي ورثت الاتحاد السوفياتي المنحل، ودول أخرى مثل الهند والبرازيل، وقد يستخدم في التعبير عن هذه الدول بالمشرق مقابل دول الغرب الاستعماري المعروفة تاريخيا، ولا شك أيضا أننا غائبون حتى الآن عن هذا التشكل، لا يظهر لنا أثر حقيقي فيه، نحن فيه كما كنا في سابقه، بلا ملامح، لا اقتصاد راسخ ، ولا إرادة سياسية حرة، ولا قدرة عسكرية رادعة أو حامية، ولا مؤشرات على مشروع نهضة يمكن أن يجمع الأمة، بل والأدهى لا تعريف متفق عليه لمفهوم الأمة التي يمكن السعي لجمها ووضعها في سياق واحد بما يولد قوة وجود واحدة، وقدرة على التحرك والتقدم فاعلة.
إن الشرق والغرب لا يقيمون لنا حسابا، لا يقيمون لدولنا حسابا، لكنهم يتخوفون بشدة من احتمال تحرك مجتمعاتنا في لحظة نهوض غير محسوبة، كمثل ما حدث في منتصف القرن المنصرم، لذلك هم جميعا يكبلون هذه المجتمعات بما يمنعها ويحرف ويعيق حركتها.
الكيانات الراهنة المتخلفة عن حقبة الاستعمارية التي شغلت القرنين التاسع عشر والعشرين والتي تهتز اليوم بشدة، لا تستطيع أن تستبين طريقها، وهي يوما بعد يوم تسرع في اتجاه تعزيز “الانغلاق القطري” بين أبناء الأمة الواحدة، وتجريم المساس به، وفي الوقت نفسه الانفتاح دون قيود أمام الاختراق الخارجي شرقيا كان أم غربيا.
هل “بلاد الشام” خارج هذا الوضع الخانق؟ ما يجري في فلسطين وغزة وسوريا يعطي جوابا حاسما، وحال الوضع في العراق والسودان وفي مختلف البلاد العربية يعزز هذا الجواب.
نحن بأمس الحاجة لامتلاك رؤية وإمكانية للحركة في إطار مفهوم للأمة، يستند إلى الجغرافيا والتاريخ والقيمة الحضارية التي تختزنها أمتنا العربية الاسلامية.
إستانبول / 25 / 8 / 2025