
بين ممارسة العنف وشرعية الاستحواذ المفردة على السلطة جوهر مشترك هو مقولة الغاية والوسيلة لميكافلي. فكل غاية تبرر وسيلة استخدامها غير المشروعة تنفي شروط تكونها من حيث كونها غاية إنسانية عامة، بقدر ما هي غاية تملكية تفترض الشمول والإطلاق، ونفي الآخر كلية لغة ومن ثم فعلاً وفرض وسائلها عليه تبريراً لغايتها. وهذا منزلق خطر نفسياً وسلوكياً وسياسياً يقوض أساس الشرعية العامة للاختلاف وآلية التعاقد حوله من جهة، ويؤسس للانتفاع الشخصي والمنفرد على حساب مصلحة المجموع من جهة أخرى، وفوق هذا كله يجعل الوسائل مبررة كغايات تغلفها الأيديولوجية المزينة لها كألية عمل قسرية.
الغاية المحاطة بخطر أن تتجاوزها الوسيلة أدواتياً، تتحول معها الوسيلة لغاية بحد ذاتها، وتولد القسرية والعنف لتحقيقها تُحمل على عناصر تعسفية نفسية وسلوكية. فممارسة الحكم كغاية لأي عمل سياسي هو منتج سياسي يستلزم شرعية وجوده في حيز عام يفترض إرادة المشاركة الجماعية وتناسق والأدوار الممكنة الإدارية، وهذا يختلف عن شرعية مفردة تفرض إرادتها على الأخرين بفعل القوة وشرعية الأحقية والأهلية تزينها لفظياً وتنفيها واقعياً، كما زينته الشيوعية ذات يوم فأقامت سلطة شمولية مهيمنة بغاية العدالة الاجتماعية التي نفتها جذرياً حين نفت واعتقلت من يخالفوها، وهو ذاته شرعيات نظم العسكر في حواضن الشرق، قوموية كانت أو اشتراكاوية أو دينية أو تنوس بين هذا المثلث بعامه، فحولت البلاد والعباد لخراب، ولازلنا نجني نتائجه الكارثية لليوم..
تستطيع علوم النفس تبرير العنف كردة فعل، لكنها لا يمكنها أن تضع له الأسس المنهجية والمعرفية لشرعنته كممارسة، بل تقوم على ترويض حامليه بأدوات شخصية مفردة من خلال علاجات نفسية وسلوكية شخصية بذاتها. لكن في موضوعات السياسة وحكم البشر والمجتمعات يحيل السؤال إلى البنية العامة وشروط علاجها العام لا الشخصي والمفرد وهذا فرق وحدّ. فبقدر ما تكون القدرة خاصة فردية، والقوة المستخدمة كمرادف للعنف، تكون السلطة هي قدرة البشر على أن يعملوا معاً وليس فقط، وأن يعملوا بطريقة متناسقة ومتبادلة الأدوار تفترض شرعية الجميع بشكل متساوٍ حقوقياً على اختلاف الإمكانات والأدوات. فقوة الحكم والسلطة في معناها ومضمونها توافق رضائي أو طوعي تعتمد على اتفاق المجموع البشري الممثل للمجتمع على كيفية تنظيم ممارساتهم الحياتية المتعددة، وتحديد وتنظيم دور الأفراد لأداء هدف عام متفق عليه يسمى الصالح العام. تتجلى قوة حضورها السياسي في الاقتناع الحر على شكل تداول السلطة وحل معيقاتها بالحوار والتوافق، وهذا خلاف عن ممارسة سلطة القوة وشرعيتها الثورية. ومن ثم تكون القوة هنا قوة اجتماعية إيجابية، وإلا يصبح الكيان السياسي القائم قوة سلبية واغتصاب وتعسف.
واليوم، ومع تبرير استخدام العنف وإنكار حدوثه تبرز مرة أخرى مؤشرات الخلل البنيوي والسياسي في إدارة المرحلة الانتقالية، وهذا سر استعصاء المسألة السورية ووقوعها مرة أخرى رهينة التجاذبات والشروط الدولية
السلطة، وخلافاً للشرعية الثورية المحملة على النزعة النفسية والثأرية والاستئثار المفرد بالسلطة وشؤون الحكم، هي فعل بشري يذهب باتجاه الاعتراف بالاختلاف السياسي والفكري والعقائدي كأساس العقد الاجتماعي الذي أسسته ثقافة عصر الأنوار، وهي التي تؤسس لشرعية الفعل السياسي والعمل الحكومي الذي يقوم على نفي موضوعة العنف المرتبطة بأفكار الطاعة والإرادة والهيمنة وحكم الإنسان للإنسان بالإكراه، وبالضرورة هي العمل السياسي الشرعي ضمن المجتمع لتصل للشراكة والتفاعل الإيجابي وقد نفت الإكراه والتعسف والتسلط وبالضرورة العنف. فممارسة السلطة بالقوة وتبريرها بالشرعية الثورية هي ترجمة حرفية لمقولة ماوتسي تونغ “السلطة تنبع من فوهة بندقية”، والتي أوجدت وتوجد أكثر أشكال الطاعة والامتثال وأكثر القيادات دكتاتورية، ولكنها أبداً لا تنتج الحكم بمفهومه السياسي وأقله الإداري في التعامل في شؤون البشر. فمن فوهة البندقية يمكن أن تحصل على شرعية مؤقتة للسلطة، لكن تنفي جذور الحكم كعمل سياسي من حيث المبدأ، من هنا تبدأ المشكلة والحل بآن!
من المهم هنا التذكير بأن ممارسة الشرعية الثورية والعنف والدخول في صراعه الدامي، قاد السوريين في مرحلة ما قبل سقوط النظام السابق سواء من أصحاب الشرعيات الثورية أو السلطوية القائمة، للوقوع فعلياً في شباك التعقيد العالمي الروسي والأميركي وما دونه الإيراني والتركي وغيره، وتنازعهم السياسي والدولي باستثمار مقيت لموضوعة الثورة السورية وشرعية مطالبها السياسية في التغير السياسي، والانتقال لموضوعة فرض الشرعية والحصول على سلطة بديل. واليوم، ومع تبرير استخدام العنف وإنكار حدوثه تبرز مرة أخرى مؤشرات الخلل البنيوي والسياسي في إدارة المرحلة الانتقالية، وهذا سر استعصاء المسألة السورية ووقوعها مرة أخرى رهينة التجاذبات والشروط الدولية، وأهمها التدخل الإسرائيلي المباشر بالشؤون الداخلية السورية، وليس فقط بل عودة الأمم المتحدة للحديث عن القرارات الدولية في الشأن السوري، وعودة المباحثات الدولية حول إمكانية وجود شروط الاستقرار ونبذ العنف في مجريات الحدث السوري بالوضع الراهن. ففي حين لم تذهب مشاهد العنف الكيماوي الذي مارسه النظام ضد الشعب السوري قبل 12 عام، لم ننسَ بعد الآثار الكارثية التي تركها التدخل الدولي متعدد الأقطاب بالشأن السوري وتركنا كسوريين رهينة صفقاتها التي لم تتوقف لليوم، فهل سنعيد الكرة ونترك شؤوننا المحلية مرة أخرى لصناع السياسة الدولية ورغباتها منا؟
لا شك أنه ثمة ارتباط وثيق للشأن السوري بالمتعلقات الدولية كالعقوبات وآثارها الكارثية، لكنها عندما تصبح صلب عمل السياسة بالوقت الحالي ويترك الشأن الداخلي السوري ويهمل، وليس فقط تُصم الآذان عن كل الأصوات السورية التي تطالب وتنتقد وتطرح ضرورات الاهتمام بإدارة الشؤون الداخلية بذات الحساسية والمسؤولية مع الملفات الخارجية، فمرده الحرص على عدم استثمار الخلافات الناشئة بين السوريين سياسياً وأيديولوجياً ودينياً من قبل الجهات الخارجية، وإسرائيل مسألة لا تخطؤها عين عاقل. فمن غير المعقول حل المسائل الداخلية بممارسة الشرعية الثورية النفسية ورفض التشاركية والعقلانية كضرورتين لازمتين لمنع ما يجري من تدهور كارثي بالشأن السياسي اجتماعياً ومحلياً والنتيجة استثماره دولياً بشكل كارثي مرة أخرى. حيث أن الحوامل المجتمعية والتناقضات الحادة في المجتمع هي التي تقود للتغيير بشكل تدريجي بالحوار والتوافق، وهذا مختلف كلية عن فرض الشرعية على مسار التناقضات والحوامل هذه تحت عنوان التغيير القسري والشرعية الثورية، فالحكم والعنف في تناقض دائم، والعنف هو ليس مقوض للسلطة وفقط بل طارد لكل عمل سياسي أو مدني.
لليوم لم تزل مغالطة الثورة التاريخية تتمثل بسؤال: من يمثلني؟ سؤال يحمل في طياته العودة لحكم الشرعية حزباً أو قوة عسكرية أو إرادة فردية، وليس فقط، بل اشتداد حدة التنافس الشرعوية هذه تكتنفها أحلام القيادة المفردة ونزعة رفض الآخر المختلف كلياً، وهذا ما يحدث بكل سوريا بعد 8/12 وأخشى من استمراره! فيما هل يمكننا اليوم أن نحمل أسئلة مختلفة:
من يشاركني؟ من يتحمل المسؤولية معي؟ ويشكل رافعة للتشارك في وحدة المصير والهوية، بعد سنوات من تذررها وتشتتها بين ألف مصير ومصير دونه!
من يدخل بوابة السياسة معي؟ بعد أن حولتنا الأيديولوجيات والشرعيات لقبائل سياسية متناحرة تغزو بعضها بعضاً، وتسبي أفكار بعضها البعض قولاً وممارسةً؟
من يمكن أن يكون سورياً؟ في زمن باتت كلمة السوري تهمة دون مستوى الطوائف والأكثرية والأقلية؟ وهل سيبقى سؤال من يمثلنا ذو شرعية ثورية جزافية، أم لابد من فتح بوابات الأسئلة الأخرى؟!
المصدر: تلفزيون سوريا