فلسطين في العالم وإسرائيل تخسر مِحرقتها

دلال البزري

ستكون ملكة جمال فلسطين، نادين الأيوبي، أول فلسطينية تتقدّم إلى مباراة ملكة جمال الكون في تايلاند الخريف المقبل. تعلن الخبر مرتديةً فستاناً بالتطريز الفلسطيني من تصميم الفلسطينية هبة عبد الكريم، وتقول عن هذه المباراة: “أنا أمثّل كلّ امرأة فلسطينية، كلّ طفل فلسطيني، والعالم يجب أن ينظر إلى قوتهما (…) نحن الفلسطينيين الوطن يعيش فينا”. بيلا حديد، عارضة الأزياء الأميركية الفلسطينية، عرفناها طوال العامَين الماضيين تنادي بوقف المجزرة في غزّة، تتبرّع بمليون دولار لصالح جمعيات فلسطينية تعمل في غزّة، تطلّ متشحة بالكوفية، تؤكّد اعتزازها بفلسطينيتها، وتشارك في التظاهرات، وتردّد دائماً “الخوف ليس حلاً”. أخيراً، دشّنت بيلا حديد عطراً جديداً، لم تتكلّم عن فلسطين، ولكنّها ارتدت فستاناً فلسطينياً من تصميم الفلسطينية ريم البنّا. العشرينية (الأميركية أيضاً) كات أبو غزالة، تعرّف نفسها سليلةَ أجداد عاشوا النكبة. تترشّح في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي للكونغرس، وعن دائرة شيكاغو المعروفة باحتضانها أكبر جالية فلسطينية في الولايات المتحدة. صحافية استقصائية، متخصّصة بكشف الأخبار الكاذبة، دخلت في عراك مع “الكبار”، ومنهم إيلون ماسك، فصُرِفت من عملها. معركتها هي ضدّ اليمين المتطرّف، كما تقول، ونقطة الخصومة بينها وبين منافسيها من الحزب الديمقراطي بشأن غزّة، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وربّما تُعوِّل كات أبو غزالة على الجناح (الضعيف حتى الآن) الذي بدأ يتبلور شيئاً فشيئاً داخل هذا الحزب، عبر عدد محدود من نوّابه الذين بدأوا يطرحون وقف تسليح إسرائيل. وربّما ستنسّق أبو غزالة عملها مع فلسطينية أخرى، هي رشيدة طليب، النائبة عن الحزب نفسه.

المهم في الموضوع أن هذه الأمثلة تدلّ على أن فلسطين بلغت مناطق لم تكن معهودة، أو إنها كانت قليلة الحركة أو البروز فيها. الآن، تدخل فلسطين علناً إلى قلب عالم الجمال والعطور والأزياء، وكلّ شبكاته العميقة وخوارزمياته، فضلاً عن عالم السياسة، الذي لا يقلّ توغّلاً في بواطن المجتمعات. والأمثلة لا تُحصى. فإذا قارنتَ بين العام الجاري والعام الماضي، سوف تلاحظ خروج فلسطين من حرم الجامعات الأميركية وشبابها إلى ساحات أوروبا والأميركيَّتَين (الشمالية والجنوبية) وأستراليا ونيوزيلندا. هذه السنة، كان ثمة استنفار شعبي عالمي، وتكثيف لكلّ الفعّاليات، وتجاوز لشعارات الإبادة إلى التكلّم عن تجارة السلاح والحروب الإقليمية، وربط بين هذا السلاح وبين القتل الإضافي لأهالي غزّة، وذروته قتل الساعين إلى النجاة من الموت جوعاً.

ومن الأشياء القريبة إلى الشابّات الثلاث، ذيوع الدبكة الفلسطينية، والطبخات الفلسطينية، والشعارات ورسومات الحائط والأعلام، والبطيخ بمختلف أشكاله، والاعتصامات المنتظمة والعفوية، والمسيرات “من أجل غزّة”، والتظاهرات البرّية، وصارت الآن بحريةً؛ عشرون سفينة ستعيد الكرّة مع غزّة بعد أيام بقيادة السويدية غريتا ثنبرغ، ومشاركة النجمة الأميركية سوزان ساراندون. وقرارات محكمتَين دوليَّتَين بإدانة إسرائيل، ومذكّرة توقيف بحقّ رئيس وزرائها… ولا تقتصر هذه الحركة على الشعوب. الحكومات أيضاً أعلنت منذ شهرين، بقيادة فرنسية سعودية، تبنّيها الدولة الفلسطينية تحت مظلّة الأمم المتحدة. وكان الجديد في هذا المؤتمر بروز كلّ من رئيسي وزراء نيوزيلندا وأستراليا بتصريحات تكاد تشبه استنكاراتنا العربية.

الخارج ليس مشغولاً بحركة حماس، إنما بأهل غزّة، بقتلهم اليومي بالصاروخ أو بالطائرة أو بالرصاص الحيّ المباشر داخل خيمهم وهم جائعون

قوة هذه الحركة العالمية، أكثر من شعر بها الإسرائيليون الذين يسيحون في الخارج. شهادات كثيرة عن هذه الرحلات، والإجماع على الشعور بالضيق منها. لماذا؟… هناك إجابة بليغة للكاتب الإسرائيلي أوفري إيلاني (في “هآرتس” منذ أيام). يقول إنه ذهب إلى اليونان في إجازة، وفي عطلة نهاية الأسبوع كان في المسرح يحضر جديداً عن صراع آلهة الإغريق. في نهاية المسرحية، وقف الحضور وصفّق طويلاً، كان متأثراً بشدّة كأنّه يهذي. ويتابع: “ثمّ حصل ما لم يكن منتظراً، من قلب الحضور طلعت صرخة “فلسطين.. فلسطين.. فلسطين”. لوهلة “لم أفهم ما حصل. ولكن المئات من بين الحضور انضموا إلى الصرخة، وكأنّهم في حالة نشوة”. ثمّ يتابع واصفاً أحياء أثينا السياحية؛ شعارات على الحيطان وفي الإعلانات تتكلّم عن الإبادة في غزّة. أو عبارة “تفو على الصهيونية” حملتها لوحة خارج مطعم، أو إلى جانب أسعار القهوة والليموناضة. ويخلص الكاتب إلى وصف مفارقة يعيشها منذ حادثة المسرح، فيكتب: “نذهب إلى الخارج للهروب من الضيق الجاثم على صدورنا، للهروب من الواقع الرهيب الذي تعيشه إسرائيل. وعندما نسافر إلى الخارج، تصرخ الحقيقة في وجهنا من فوق الجدران (…) السفر إلى الخارج يبيّن لك أن الشعور بالحرب داخل إسرائيل أضعف بكثير من الشعور بها وأنت خارجها”.

المهم أن فلسطين خرجت من الحبس الإسرائيلي، وصارت قضيتها عالمية، رسمياً وشعبياً. وبات كثيرون يتكلّمون عن الخسارة الكبرى التي تكبّدتها إسرائيل من جرّاء هذه الحرب، أي خسارة صفة الضحية التي ابتزّت بها العالم خلال العقود السبعة الماضية. لا ينكرون المحرقة اليهودية، لكنّهم يرون أن إسرائيل تجاوزتها، تحوّلت إلى جلّاد. وبعضهم يعود إلى البداية ويقول “أصلاً… هل كان يحقّ لكم أن تعاقبوا الفلسطينيين على أفعال النازيّين؟”. بعد خسارتها صفة الضحية، فقدت إسرائيل الشرعية الأخلاقية التي كانت تعتدّ بها. سقط قناع المحرقة النازية.

دخلت فلسطين علناً إلى قلب عالم الجمال والعطور والأزياء، وكلّ شبكاته العميقة وخوارزمياته، فضلاً عن عالم السياسة، الذي لا يقلّ توغّلاً في بواطن المجتمعات.

خذْ مثلاً إعلامياً: نتنياهو وهو يبرّر الخطّة الجديدة لاجتياح غزّة لا يردّد إلا أنه يريد أن يقضي على حركة حماس. كلّ حجّته تجاه الوزراء والمحتجّين وأهالي الرهائن. كلّما رفع من عيار المقْتلة، يقول “حماس”، و”أريد أن أقضي على حماس” و”أن أسحق حماس.. أن أنهي حماس”. ليس في عقله إلا “حماس”. أمّا خارج إسرائيل فلا يسمعه أحد. الخارج ليس مشغولاً بحركة حماس، إنما بأهل غزّة، بقتلهم اليومي بالصاروخ أو بالطائرة أو بالرصاص الحيّ المباشر داخل خيمهم وهم جائعون.

ومع ذلك، الحرب الإسرائيلية على غزّة مستمرّة، وتتوسّع في الضفة بما فيها شرقي القدس. وآخر مشاريع بتسلئيل سموتريتش الاستيطانية تقضم أراضيها، فيما نتنياهو يتجاوز رئيس أركانه، ورسالة مئات من الرافضين للانضمام إلى الجيش، يتحضّر للمزيد على غزّة، بإعادة احتلالها.

كيف يمكن أن تستمرّ إسرائيل في هذه الحرب، فيما العالم كلّه ضدّها؟ هل لأن صور التضامن الشعبي والجماعي والفردي مع فلسطين هي رمزية؟ أو لأن نوع الطاقة التي تطلقها مبعثرة هنا وهناك؟ أم لأن هذه الأشكال تحتاج إلى توسيع وتعميق وتنظيم ووقت؟ هل لأن الفلسطينيين ضعفاء منقسمون، بين “حماس” الخاسرة، والسلطة الواعدة نفسها بالقليل، وأشقاءهم العرب الأكثر ضعفاً وانقساماً؟ هل لأن العالم أجمع لا يستطيع أن يفعل شيئاً مع أميركا ترامب الضامنة لوجود إسرائيل، لتسليحها وتمويلها، ولاختراع المشاريع المستجيبة لأكثر بناة مستوطنيها شراسة وتوسّعاً؟ هل يخشى الداعمون الرسميون لفلسطين عبر تبنّيهم الدولة الفلسطينية سطوة أميركا ترامب؟ وسيف الصفقات والتعرفات والعقوبات مسلَّط فوق رؤوسهم؟ فلا ترافق عواطفهم تجاه “الدولة” أيّ خطوات عملية من أجل البدء بتنفيذها؟… بالكاد يتذكّرونها في تحرّكاتهم، وتكون رخاوتهم في هذه الحالة موصوفة. وفي كلّ الأحوال، دخلت فلسطين قلوب العالم، وإسرائيل ضيّعت روحها. والروح في المدى البعيد، أمضى من السلاح ومن موازين القوى.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى