”  حرب” السفارات المصرية

شادي لويس

منذ اندلاع الحرب الإبادة في غزة، استدعت السلطات المصرية الحشود أكثر من مرة. بداية، لاستعراض الغضب الجماهيري من الحرب أمام العالم، وهي الورقة التي سرعان ما سحبتها القاهرة من لعبة الضغط الدبلوماسي. وذلك، خشية أن تفلت الأمور وتتحول التظاهرات المعارضة للحرب إلى احتجاجات ضد الدور المصري فيها، أو ضد النظام بالعموم، مثلما حدث في المسيرات التي انطلقت في القاهرة العام 2003 ضد الغزو الأميركي للعراق، وانقلبت هتافاتها سريعاً ضد نظام مبارك.

مرة أخرى، استدعى النظام المصري حشوداً راقصة إلى الحدود وبالقرب من المعابر، ربما ليغسل يده من تهمة المساهمة في حصار قطاع غزة، وفي تموز/يونيو الماضي أطلق حشداً آخر لمهاجمة قافلة “الصمود” ومنعها من الوصول إلى وجهتها. لا تضارب هنا في سلوكيات النظام، فسحق أي حراك في الحيز العام وكل صور العمل الأهلي، مبدأ حاكم لسياساته الأمنية، إن لم يكن جوهرها. أما الجموع الركيكة التي يتم تنسيقها وهندسة حركتها لأغراض الاستعراض السياسي، فهي الوحيدة المسموح لها بالحضور في الفضاء العام. تلك السياسة المزدوجة لا تكتفي بمنع الحشود من الفعل، بل تعمل أيضاً على ابتذالها.

هذه المرة نظمت السلطة مظاهرة أمام السفارة الهولندية في القاهرة، وذلك على خلفية قيام عدد من المعارضين المصريين في الخارج، ممن يتهمون السلطات المصرية بالمشاركة في حصار غزة، بتنظيم سلسلة من الاحتجاجات التي استهدفت السفارات المصرية في العواصم الغربية. واجتذبت دعوات الاحتجاج أمام السفارات والقنصليات المصرية عدداً محدوداً من المحتجين، ولكنها نالت تغطية إعلامية واسعة. وكان أكثرها لفتاً للانتباه قيام أحد المحتجين بوضع أقفال على المدخلين الرئيسيين للسفارة المصرية في لاهاي.

بدا رد فعل القاهرة مبالغاً فيه، فسرعان ما استدعت السلطات مؤيديها للتصدي للاحتجاجات المعارضة أمام السفارة المصرية، حيث وقف حشد أمام آخر. ونشر لاعب الكرة المصري السابق، أحمد ناصر، مقطع فيديو على تطبيق “إنستغرام” يتصدى فيه لدعوات حصار السفارة المصرية، ويتوعد المشاركين فيها. ومن جهة أخرى، وفي فيديو مسرب -عمداً على الأغلب- هدد وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، بمعاملة الدول المتقاعسة عن حماية السفارات المصرية بالمثل، أي بتخفيض الحماية الأمنية لسفاراتها في القاهرة أو سحبها بالكامل. وظهر الوزير المصري غاضباً في المقطع المصور، وهو يتحدث إلى سفير مصر لدى هولندا، عماد حنا، ويوجهه باستخدام القوة تجاه أي محاولة لوضع أقفال على مداخل السفارة أو رشها بالطلاء، واحتجاز مرتكبيها حتى وصول الشرطة. علاوة على ذلك، قامت الأجهزة الأمنية المصرية بإلقاء القبض على اثنين من أقارب واحد من المحتجين ضد السفارة المصرية في لاهاي.

كان من البديهي أن تقلق حكومات المنطقة، وعلى رأسها مصر، من أن يطولها الرذاذ الدموي للمذبحة الدائرة في غزة، وذلك في صورة اضطرابات داخلية. بشكل مذهل وصادم في آن، نجحت السلطات المصرية في وأد كل صور التعبير عن الغضب منذ اندلاع الحرب على غزة. لكن ذلك السخط المكبوت صدر إلى الخارج، وأسقط على القطاع المحاصر معضلات السياسة المصرية الداخلية. السفارات أرض مصرية بلا شك، لكن حدودها الخارجية تخضع لمنظومة أمنية وقانونية مختلفة، تسمح بالاحتجاج وبأفعاله الرمزية. ذلك الوضع الملتبس هو ما أتاح لمعارضي الخارج إمكانية التظاهر. وهو أيضاً ما أغضب السلطات في القاهرة، المعنية بـ”صورة مصر” وبـ”هيبة الدولة”، والمهووسة بمحاصرة أي مساحة للاحتجاج، حتى ولو في الخارج.

في المحصلة النهائية تصب حرب السفارات بشكل غير مقصود في صالح النظام المصري، فمناوشتها غير المؤثرة تصلح كعرض جانبي يشتت الأنظار، ويمنح أبواق السلطة فرصة جديدة لاستدعاء شبح “الإخوان” والمؤامرات الخارجية.

المصدر: المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى