
الأحد الماضي، قُتل ستة صحافيين فلسطينيين شبّان وشجعان في غزّة، من بينهم مراسلا قناة الجزيرة، أنس الشريف ومحمّد قريقع اللذان تحوّلا إلى أيقونتين صحافيتين عالميتين، رغم صغر سنهما وحداثة عهدهما بمهنة المتاعب، شابّان كانت “جريمتهما” الوحيدة إظهار حقيقة حرب الإبادة البشعة التي يقترفها جيش الاحتلال في غزّة منذ أكثر من 22 شهراً، وفضح جرائمه وكذبه ودعايته وزيف روايته أمام العالم.
لم يكن مقتل هؤلاء الأبطال نتيجة قذيفة طائشة أو صاروخ أعمى، أو مجرّد “أضرار جانبية”، كما تعود جيش الاحتلال تبرير جرائمه البشعة للإفلات من العقاب، رغم أنه يدرك أن لا أحد في العالم يستطيع معاقبة جنوده، عفواً مجرميه، حتى اللحظة على الأقل، وإنما هي استراتيجية واضحة لقتل الحقيقة باستهداف الشهود، حتى لا يفضحوا معالم الجريمة. لقد كان اغتيال الصحافيين، أنس الشريف ومحمد قريقع وزملائهما، رسالة واضحة، وقبل ذلك هدفاً رسمياً معلناً: قتل الحقيقة. فقبل ساعات فقط من اغتيالهم، وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه عن خطّة “الاحتلال الكامل” لغزّة، وهاجم وهدّد الصحافيين الفلسطينيين الذين يفضحون جرائم جيشه، ويكشفون عن أكاذيبه وزيف رواية دولته. لذلك لم تكن الجريمة التي ارتُكبت مصادفة، بل هو تخطيط مُحكم، واستهدافٌ معلن كما جاء في تبرير الجيش الإسرائيلي الذي تبنّى الجريمة: أي إسكات الشهود المزعجين قبل المرور إلى المشهد التالي من المجازر المبرمجة قبلاً.
في زمن الحرب، وحدَه السلاح، مهما كان متطوّراً وفتاكاً، لا يحسم المعارك، فالكلمة، والصورة، والشهادة الحية، يمكن أن تكون أكثر قوة وحسماً من كل الأسلحة المدمّرة. ومن هنا أهمية الصحافة الحرّة في زمن الحرب، لأنها سلاح الضعيف. ولذلك هي أول من يدفع الثمن، عندما يتحوّل الصحافيون إلى أهدافٍ سهلة، كما يحصل اليوم في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في غزّة والضفة الغربية بوتيرة غير مسبوقة في تاريخ الحروب الحديثة، في ما وصفته منظمات حقوقية بأنها أكبر مجزرة للصحافة في التاريخ الحديث. ففي خضم المعارك التي تُخاض بكل أنواع الأسلحة المسموح باستعمالها وغير المسموح باستعمالها، غالباً ما تكون الحقيقة المستهدف الأول، وأكبر ضحاياها وأولها هم الصحافيون الذين يبحثون عنها ويحاولون نقلها إلى العالم. هنا تكمن قوة سلاح الصحافة الحرّة والمستقلة التي تنقل الحقيقة، وتفضح الانتهاكات في زمن كل الحروب التي يشهدها العالم منذ القرن الماضي.
الجريمة الإسرائيلية في غزة متعدّدة الأبعاد، قتل الصحافيين واغتيال الحقيقة، وفوق ذلك تَحَمٌّل نفاق العالم الغربي
لقد أثبت التاريخ أن الحرب ليست فقط صراعاً على الأرض أو الموارد، بل هي أيضاً صراع على الرواية. في فيتنام، لم تهزم أميركا على الجبهة فقط، وإنما هُزمت أيضاً أمام الرأي العام على شاشات التلفزة، حين بثت الصحافة صور الأطفال الفارّين من نيران “النابالم” الحارقة، وجنود “اليانكي” وهم يقعون في المصايد المعلقة في الأدغال، ويغرقون في المستنقعات الآسنة، قبل أن يتحوّلوا إلى طعام للتماسيح والديدان. وفي حرب البوسنة، أثارت لقطات المقابر الجماعية ضمير العالم، ولعبت صور المجازر التي كان الجنود الصرب يرتكبونها في حقّ النساء والأطفال، ووثّقتها كاميرات المراسلين الغربيين دوراً حاسماً في تعبئة الرأي العام الغربي والعالمي، ما دفع القوى الدولية إلى التحرّك لوقف الجريمة.
اليوم، تكتب غزّة فصلها الخاص في تاريخ الحروب الأكثر دموية وبشاعة في عصرنا الحديث، حيث تتواجه على أرض المعركة روايتان، رواية أصحاب الأرض والحق، ورواية المحتلين وسارقي الأرض ومزوّري التاريخ. ومع الأسف، حطب هذه الحرب غير المتكافئة هم الصحافيون الفلسطينيون الذين سقط منهم 238 صحافية وصحافياً، اغتيل معظمهم وهم يوثّقون جرائم المحتل حاملين كاميراتهم، ويرتدون ستراتهم الصحافية التي تميّزهم بوضوح، والتي بدل أن تحميهم وتحصّنهم حوّلتهم إلى أهداف واضحة وسهلة لقناصي جيش الاحتلال ومسيّراته. عمليات قتل الصحافيين الفلسطينيين في غزّة والضفة الغربية ليست مجرّد “أضرار جانبية”، كما يزعم جيش الاحتلال، إنها جزء من استراتيجية عسكرية لم تعد مستترة: تصفية الشهود لإخفاء معالم الجريمة، وإسكات صوت الحقيقة حتى تظلّ السردية الإسرائيلية وحدها المسيطرة والسائدة.
نحن أمام اختبار أخلاقي قاسٍ ونبيل في الآن نفسه، أن نواصل المسار، ونصون نبل رسالة الصحافة، وندافع عنها، حتى لا يصبح وجودها على المحكّ
الجريمة هنا متعدّدة الأبعاد، قتل الصحافيين واغتيال الحقيقة، وفوق ذلك تَحَمٌّل نفاق العالم الغربي. وهنا يكمن السقوط الأخلاقي الكبير لوسائل إعلام غربية مؤثرة، وتنظيمات صحافية كبيرة، فعندما كان يُصاب صحافي أوكراني أو صحافي غربي في أوكرانيا، تشتعل العواصم الغربية غضباً، وتصدر التصريحات المدينة بقوة من القادة والسياسيين الأكثر تأثيراً في صناعة القرار في العالم، وتنظم الحملات والوقفات الاحتجاجية داخل صالات التحرير وفي الشوارع والساحات، وتُضاء المعالم التاريخية في كبرى عواصم العالم بأسماء الصحافيين الضحايا وصورهم وأعلام دولهم. وعندما يُغتال الصحافيون الفلسطينيون بشكلٍ مستهدفٍ وممنهج، يتلاشى الوضوح الأخلاقي بسرعة في العواصم الغربية ووسائل إعلامها “المهنية”، وتأتي ردات الفعل خجولة محتشمة خافتة وغائبة أحياناً كثيرة، وتصدُر دعوات “ضبط النفس” والمطالبات الماكرة بضرورة “فتح تحقيقاتٍ” يدرك الجميع أن مآلها الحفظ والنسيان. هذه ليست مجرّد ازدواجية في المعايير، إنه تفريغ لفكرة أن رسالة الصحافة الحرّة مقدّسة، وأن حياة الصحافي في زمن الحروب مهمّة بالقدر نفسه، بغض النظر عن جواز سفره ولون بشرته ودينه وقوميّته، بل هو تخلٍّ عن المبدأ العالمي القائل إن حياة الصحافي، أينما كان، تستحقّ حمايتها والدفاع عن حقّ صاحبها في البحث عن الحقيقة، وكشفها للرأي العام العالمي. ما دام هذا النفاق قائماً، ستستمر جرائم قتل الصحافيين الفلسطينيين. وعندما يسقط آخر صحافي مستقلّ في غزّة، فلن يقتصر الأمر على دفن القصة الفلسطينية فحسب، بل سيشمل ذلك أيضاً مصداقية كل حكومة ومؤسّسة ادّعت الإيمان بحرية الصحافة.
الدفاع عن حرّية الصحافة وعن سلامة من تبقوا من صحافيين فلسطينيين شجعان في غزّة المدمّرة والمحاصرة ليس ترفاً أخلاقيّاً، بل هو ضرورة إنسانية وقانونية، لأن القصّة التي لا تُروى جريمة مضاعفة: ضد الضحايا، وضد الحقيقة. وإذا لم يهزّ قتل صحافيي غزّة ضمير ما يُسمى “العالم الحر”، فإن ما تبقى من مصداقية الغرب الديمقراطي إلى زوال، وإذا فشل العالم في الدفاع عن رواة القصص بحرّية، وإذا لم يتحرّك العالم الحر والمنظمّات الحقوقية والهيئات والتجمّعات الصحافية ووسائل الإعلام العالمية لحماية من تبقّوا من صحافيين فلسطينيين في غزّة، فسنجد أنفسنا نعيش في عالم تُخاض فيه الحروب في تعتيم كامل، والتاريخ الوحيد الذي سيبقى للأجيال المقبلة هو الذي سيكتُبه المنتصرون بأكاذيبهم وتزييفهم الحقائق. بينما تُدفن الروايات الأخرى وأصحابها في مقابر الصمت الرهيب الذي يكاد يخيّم اليوم فوق كل الرؤوس التي فضّلت الانحناء أمام الظلم والهمجية والكذب والزيف، حتى لا تُرى الحقيقة كما أوصانا أنس الشريف أن نحافظ عليها ساطعة صدّاحة. نحن أمام اختبار أخلاقي قاسٍ ونبيل في الآن نفسه، أن نواصل المسار ونصون نبل رسالة الصحافة، وندافع عنها، حتى لا يصبح وجودها على المحكّ.
المصدر: العربي الجديد