
لم يتسن للسوريين الاحتفال طويلاً بانتصار ثورتهم، فقد اضطروا فوراً لمواجهة عدوان إسرائيلي متعدد الوجوه، ابتدأ بتدمير الأصول العسكرية السورية في أضخم حملة جوية في تاريخ الدولة العبرية، مروراً باحتلال جبل الشيخ وأراض أخرى تتجاوز خط هدنة 1974، ولم ينته بتدبير التمرد في السويداء وتشجيعه ودعمه.
وعدا عن الاعتداءات والمؤامرات الإسرائيلية، فقد كان على السوريين أن يواجهوا أزمة مجتمع منقسم تركه النظام المخلوع بلا هوية وطنية، ولا رابط ثقة بين مكوناته، في حين كانت بقايا النظام والمتورطين في جرائمه، أو المتعلقين بنزعته الطائفية، يسعون لاستغلال ذلك لإعلان التمرد ونشر الفوضى، وإحداث أقصى ما يمكن من ضرر للدولة والمجتمع، ولسمعة الحكومة الجديدة وقدرتها على الأداء.
وإلى جانب ما هو معروف من أمر الأزمة الاقتصادية المستفحلة، ومشاكل إدارية وأمنية جسيمة أورثها النظام البائد، تكون سوريا أمام تحديات تاريخية معقدة، لتجاوز هذه المرحلة الحاسمة. لكن واحداً من أبرز التحديات التي ظهرت بعد سقوط النظام، تبدت في العلاقات بين السوريين أنفسهم، وأقصد تحديداً السوريين المؤيدين للثورة، والمستبشرين بانتصارها، وهم النسبة الأكبر من الشعب. جزء مهم من هؤلاء، يعتقد أن الدفاع عن الثورة يكون بمهاجمة سوريين آخرين يقفون معه في الخندق نفسه، فقط لأنهم عبروا عن موقف أو رؤية لا تروق له، حتى بات التعبير عن الرأي بما يخص سوريا وشؤونها ومواقف قادتها، أمراً محفوفاً بمخاطر التنكيل المعنوي، وربما التخوين.
هذه الظاهرة خطيرة وشاذة في أي مجتمع حر. فهي تدمر فرص الحوار اللازم للخروج من أزمات ما بعد انتصار الثورات، وتضعف الدولة في مواجهة أعدائها المتربصين في الداخل والخارج، وتجسد مقولة “الثورة تأكل أبناءها”، إن لم يكن جسدياً فمعنوياً. والأهم من ذلك كله، أنها تجعل من فرص بناء ما قامت الثورة لأجله بالأصل، أكثر تعقيداً وأقل احتمالاً.
أدرك طبعاً حماسة الناس، وحساسيتهم العالية تجاه كل حدث أو قول يؤثر على مسيرة سوريا الجديدة وفرص نجاحها. لكن ما يبدو غير مفهوم ولا مقبول هو استعداد البعض لانتهاج أي سبيل من أجل دحض فكرة مقابلة لا تعجبه، بغض النظر عن صوابيتها. والخطير هنا أن كثيراً من هؤلاء غير مهيئين أصلاً لاتخاذ قرارات تتعلق بصواب الأفكار أو ضرورتها للدولة. ناهيك طبعاً عن مكانة أصحاب الأفكار وتاريخهم وأدوارهم في دعم الثورة ودفع التكاليف العالية من أجلها قبل انتصارها.
في الثورات تصبح المزايدات على الوطنية أمراً بائساً، لا سيما في حالة الثورات طويلة الأمد مرتفعة التضحيات مثل الثورة السورية، فكل المواقف واضحة، وموثقة، وليس لأحد أن يدعي لنفسه أو على سواه، وليس ممكناً تغيير التاريخ الذي يختزنه العالم الرقمي، حتى لو كانت الذاكرة الجماعية أصابها الوهن أو العطب، ولم تعد تفرق بين الناس ومواقفهم وما قدموه من دم ومال وعرق وغربة في المنافي، أو ما فعلوه من مجاراة للنظام البائد أو توارٍ خلف الصمت بانتظار خواتيم الأمور، وهو ما لا يضع أصحابه في دائرة العواقب أو العقوبة، لكنه لا يعطيهم الحق بتقييم أصحاب المواقف والمضحين في سبيلها، ومن كان لهم السبق في الثورة ومناصرتها قولاً أو فعلاً.
هذا بالطبع دور رجل الشارع السوري العادي ومسؤوليته، لكن دور الدولة هنا أكبر وأكثر إيلاماً، فهي لا يصح أن تكون مجرد متفرج على تجريف معنوي مستمر بحق من هيأ للثورة، وكتب لها، وألهمها وخرج في مسيراتها، وقاتل في سبيلها ودفع التكاليف العالية من أجلها. الدولة هنا ليست حكماً وسطاً بين هؤلاء، وأفراد وجماعات اختاروا أن يرسموا للدولة شكل من يحكمها اليوم، على قاعدة الغلبة التي تمنح المنتصر كل شيء، لا سيما حين يراد أن يكون “المنتصر” جماعة أو مجموعة محددة من الثوار، تسنى لها دخول دمشق، بعد أن وفرت لها دماء ودموع وآلام مئات الآلاف من السوريين السبيل لذلك.
دور الدولة هنا أن تُنزل الناس منازلهم، وأن تضع الجميع أمام مسؤولياتهم في حماية الثورة من أنفسهم قبل عدو الداخل والخارج، وأن تشرع وهي تسير نحو إتمام العام الأول لانتصارها، في إجراءات حثيثة لجعل تاريخ الناس مقياساً لحضورهم، وفي تشريع ما يكفل استعادة الحقوق المستلبة، سواء تعلق الأمر بما ضاع من أموال أبناء الثورة ومؤيديها، أو حفظ مكانة هؤلاء وأدوارهم في مستقبل سوريا، فليس يؤتمن على هذا المستقبل، أكثر ممن بذل في سبيلها في أوقات الشدة وانعدام اليقين وغياب الأفق، وحينما تخلى عنهم القريب والبعيد. هؤلاء من لهم قدم السبق في صدقية القول والفعل، والمشاركة في تقرير مستقبل سوريا.
المصدر: المدن