في زحمة الموت واكتظاظ الأرض بالشهداء، ولكل واحد منهم ألف حكاية وحكاية، يبدو الحديث عن أحد من ماتوا على فراشهم نوعا من المجاملة الكبيرة، والمبالغة غير المستحبة، لكنه واحد لم يكن كالآخرين …
يصادف اليوم الذكرى السنوية الأولى لرحيله …انه الأخ والصديق غالب عامر …
رحل أبو نضال بعد مشوار حافل بالعطاء والنضال، أمضاه بين السياسة والفكر والثقافة، عرف خلاله السجن مرات، وذاق عذابات التمييز على خلفية انتمائه الفكري والسياسي والنضالي، ممن صادروا المجتمع، ونصبوا أنفسهم أوصياء عليه، وذاق الحرمان وكل أشكال المعاناة والقهر الإنساني، لا لشيء سوى كونه واحدا متل آخرين كثر، رفض الخنوع والخضوع، وقال لا…قالها مبكرا …بل رددها طوال حياته، وظل متمسكا بها وبمواقفه.
غالب عامر: كان مثالا للمثقف العضوي -على حسب تعبير غرامشي (المفكر الإيطالي) – الذي سخر نفسه وفكره وثقافته ورؤيته، لقضايا مجتمعه وأمته، لم ينزو في صومعة، او ينفصل عن الواقع، بل كان في قلبه منغمسا فيه، يستكشفه، ويستنبط الحلول، وهو يكتب، لا يبرح محراب الفكر والثقافة الا لساحات النضال والسياسة …
أزعم أن أبا نضال لوكان قد تفرغ للكتابة والثقافة والفكر لكان واحدا ممن تركوا خلفهم أثرا هائلا وكبيرا … ولصدر له عشرات الكتب، لكنه أعطى في الحالتين معا، عطاءا فذا …
في السنوات العشر الأخيرة من حياته لا تلتقيه مرة الا وفي جعبته مقال لم يكمله لافتتاحية مجلة، أو نشرة، وآخر ينتظر مناسبته، ودراسة ينتظر طبعها ونشرها وأخرى وضع عناصرها، وهو مشغول ومهموم بقضايا حقوق الإنسان، وتجديد الفكر القومي، وقضايا الديمقراطية، عينه دائما على حركة التاريخ، ترصد وتدقق بالمتغيرات العالمية الجارية.
في السنوات الأخيرة من حياته، كان أحد المؤسسين للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، وشغل عضوية مجلس الادارة فيها، ومسؤول شؤون الدراسات، والتي كان يصدر عنها مجلة صوت الإنسان التي رأس تحريرها وأشرف عليها ….في ظروف أمنية صعبة ومعقدة، لم تكن (المنظمة) خلالها مصرحا لها بالنشاط، وبالطبع اصدار منشورات أو مطبوعات، فشارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وتحمل في سبيل ذلك الكثير ..الكثير …
عندما شغل عضوية المكتب السياسي في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي في السنوات الأخيرة، بعد مؤتمره التاسع، انكب على اصدار مجلة (الوحدوي الثقافي) وكان معنيا كثيرا بتطوير فكره، ورؤيته من قضايا الحاضر والمستقبل (له كتاب منشور بعنوان الوحدة العربية في زمن المتغيرات)، ولعل المجال لا يتسع لقول الكثير في هذا الشأن الآن.
رحل غالب عامر ولم ينجز مشروعه الفكري، وأقول للأمانة، لو أن ما كتبه ويقدر بمئات الدراسات والمقالات، التي لم تكن تعنون باسمه، لو أراد تسخير امكاناته الذاتية وثقافته في اتجاه آخر(شخصي) لربما كانت سببا ليعيش بمستوى أفضل مما كان عليه، لكنه كان دائما يؤثر على نفسه، ويزاوج بين الثقافة والنضال، بين الفكر والحركة، بين القول والعمل …
هذا جانب من شخصية أبي نضال وددت الإشارة اليها في ذكرى رحيله على وعد قطعته على نفسي بأن أكون مساهما بجمع تراثه الفكري والثقافي، ونشره في كتاب، أو أكثر، فجزء كبير منه، هنا وهناك، وبعضه لم ينشر، ولولا الظروف العامة لكنا أصدرناه في الذكرى السنوية الأولى، وكنت أود كتابة مقدمة طويلة عن شخصيته، مناضلا ومثقفا وانسانا، ولكنها مشيئة الأقدار …
رحل غالب عامر في مسقط رأسه، مدينة شهبا، عن عمر يقارب 68 سنة، بعد صراع مع المرض في السنوات الأخيرة، لكنه لم يقعده عن أداء دوره لآخر يوما في حياته.
كان آخر النشاطات التي شارك بها في ذكرى 17 -نيسان -عيد الجلاء المنقوص، أو الذي لم يكتمل، كما كان يقول في كتاباته، في ساحة الشعلة بالسويداء، فهتف للحرية وتعرض للضرب، وكانت الثورة قد اندلعت، وهي ليست المرة الأولى التي يخرج فيها مؤذنا للحرية، فقبلها عرفته ساحات واعتصامات دمشق والسويداء …وحتى حلب …لكنها كانت الأخيرة.!
هو واحد من كثر …لم يعرفهم أهلنا وشعبنا، ولم يوفوا حقهم، بسبب نظام غيب المجتمع، ومنع السياسة عنه، وصادر كل شيء … الا أني أعتقد أنه اقتربت اللحظة التي يعاد فيها كتابة التاريخ، وحقبة طويلة، لم تكن الا تغيبا وقهرا ومنعا، يعاد فيها انصاف الكثيرين من رجالات هذا الوطن الشامخ بثورته وأهله.
غالب عامر (أبو نضال) الأخ والصديق والأستاذ لم يمت ……ذهب ليرتاح من مشوار طويل أتعبه …
لم يعد يحتمله جسده …فتوقف قلبه عن الخفقان …ذهب ليرتاح بعد أن اطمئن على أن الثورة بدأت، وهي ماضية الى أهدافها التي بشر بها.
أبو نضال غادرنا …ولم أتمكن من وداعه، حتى في آخر اتصال أجريته معه، للاطمئنان عليه، لم يتمكن من الكلام …
ذهب بعد أن أخلفت وعدًا بأن نلتقي …كان ذلك في آخر لقاء بيننا، في 5-أيار/مايو 2008، عندما اضطررت لمغادرة سورية.
اليوم …أذرف دمعتين …واحدة على عدم وداعه وأخرى لأنه لم يعش بيننا إلى هذا اليوم، ليرى أن سورية تكتب بدماء أبنائها حاضرها، وترسم مستقبلها، وما كان حلمًا مضنيًا صار واقعًا.
المصدر: صفحة عبد الرحيم خليفة عام 2013