روسيا أمام معادلة نفوذ جديدة في سوريا.. زيارة الشيباني تفتح باب التفاوض

مالك الحافظ

جاءت زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو في سياق يمكن أن يشكل اختباراً لإعادة فرز موازين النفوذ في سوريا الجديدة، وفرصة لقياس موقع روسيا في مشهد لم تعد هي من يحدد قواعده بالكامل.

روسيا، التي ارتبط حضورها في السنوات الماضية بقدرة مباشرة على التأثير في القرار السوري خلال فترة نظام الأسد المخلوع، تواجه اليوم معادلة مختلفة تضعها أمام اختبار مزدوج يتمثل في الحفاظ على موقعها الاستراتيجي في شرقي المتوسط وإيجاد صيغة جديدة للتعامل مع سلطة انتقالية تنفتح على قوى إقليمية ودولية متعددة.

هذه الزيارة، بما حملته من رسائل متبادلة، تمثل بداية لمرحلة تفاوضية مفتوحة حول شكل الدور الروسي ومستقبله في سوريا، في ظل بيئة سياسية إقليمية تعيد صياغة قواعد اللعبة.

توازنات تعيد صياغة العلاقة بين موسكو ودمشق

تواجه موسكو اليوم بيئة سياسية سورية مغايرة لما اعتادته في سنوات حكم الأسد، حيث كانت العلاقة مع دمشق محكومة بإطار مغلق يتيح لها حرية واسعة في المناورة الميدانية والسياسية، ويوفر لها قدرة على توظيف حضورها العسكري والاقتصادي لمحاولة الحفاظ على بعض أوراق الحضور في البيئة الإقليمية.

في المرحلة الراهنة، تتعامل روسيا مع سلطة انتقالية تعيد ترتيب أولوياتها الداخلية والخارجية، وتعمل على فتح قنوات مع أطراف عربية ودولية متعددة، في إطار سعيها لإعادة صياغة موقعها السياسي والموازنة بين التعاون مع شركاء جدد وعدم خسارة قنوات قائمة.

هذا التغير يضع موسكو أمام تحدٍّ يتجاوز مسألة الحفاظ على قواعدها العسكرية أو امتيازاتها الاقتصادية؛ إذ يستدعي إعادة النظر في أسلوب إدارة العلاقة مع دمشق، بما يتلاءم مع التوازنات السياسية الجديدة في سوريا ومع الحسابات الإقليمية والدولية المحيطة بها. وإذا لم تنجح في التكيف مع هذه المعادلة، فإن نفوذها قد يتراجع تدريجياً من موقع فاعل رئيسي إلى أحد اللاعبين الثانويين في المشهد السوري المقبل.

 

في هذا السياق، يمكن قراءة سلوك السلطة الانتقالية من زاوية أنماط الاصطفاف في العلاقات الدولية، وهو ما تشير إليه الأدبيات بمفهوم التعددية المحورية أو تعدد الاصطفافات، وهو النمط الذي تتبناه بعض الدول في سلوكها الخارجي بهدف تنويع الشراكات وعدم الارتهان لمحور واحد. يقوم هذا النهج على مبدأ خلق شبكة واسعة من العلاقات مع قوى إقليمية ودولية متعددة، بما يسمح بزيادة هامش المناورة السياسية والاقتصادية والأمنية.

وفي السياق السوري الراهن، يمكن النظر إلى انفتاح السلطة السورية على أطراف عربية وغربية، بالتوازي مع استمرار قنوات الاتصال مع موسكو، كجزء من محاولة لبلورة سياسة خارجية متعددة الأبعاد.

هذا النمط، وإن كان يمنح مرونة نسبية في إدارة التحالفات، إلا أنه يفرض أيضاً تحديات على مستوى الاتساق الاستراتيجي، إذ قد تتقاطع أجندات القوى المنخرطة في هذه الشبكة أو تتعارض، ما يستدعي قدرة عالية على التوفيق بين المصالح المتعارضة من دون فقدان التوازن.
في مقاربة دمشق للعلاقة مع موسكو، لا يظهر الحضور الروسي بالثقل الذي عرفته البلاد في سنوات نظام الأسد، بل في صورة نفوذ متبقي يتوزع بين مواقع عسكرية محدودة، وعقود اقتصادية موروثة، واتصالات إقليمية تحاول موسكو تفعيلها بما يخدم استمرار دورها. تدرك دمشق أن هذه الأوراق، رغم محدوديتها، ما زالت قادرة على التأثير في بعض الملفات، لكنها لم تعد تمنح روسيا القدرة على التحكم بمسار القرار السياسي كما في السابق.

من هذا المنطلق، تتعامل السلطة الانتقالية مع العلاقة بوصفها مساراً يتطلب إدارة حذرة من خلال إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة للاستفادة من أي تعاون ممكن، مع تجنب العودة إلى نمط الارتهان لمحور واحد. وتتحرك دمشق في هذا الإطار ضمن بيئة إقليمية ودولية معقدة، تسعى من خلالها إلى بناء مروحة أوسع من العلاقات، بما يحد من فرص أي قوة خارجية في فرض مقاربتها على المسار السوري.
في الأدبيات السياسية، تُعرَّف الدولة الانتقالية بأنها الدولة التي تمر بمرحلة تحول سياسي من نظام حكم قديم إلى صيغة جديدة للسلطة. في هذه المرحلة، تتسم العلاقات الخارجية بقدر من السيولة والبحث عن إعادة تموضع على الساحة الدولية، سعياً للحصول على الاعتراف الدولي وتثبيت الشرعية الجديدة. غالباً ما تترافق هذه العملية مع ما يُعرف بـ إعادة معايرة السياسة الخارجية، وهي مراجعة شاملة للتحالفات السابقة، وتقييم مدى ملاءمتها لأولويات المرحلة الجديدة. بالنسبة لسوريا، فإن الانتقال من تحالفات صلبة وضيقة في عهد النظام السابق إلى انفتاح على شركاء جدد، يعكس محاولة لتكييف السياسة الخارجية مع متطلبات بناء صورة جديدة للدولة، حتى وإن كانت هذه العملية محفوفة بالقيود الناجمة عن الواقع الأمني والسياسي والاقتصادي.

ضبط الحضور العسكري الروسي ومراجعة الإرث الاقتصادي

على امتداد العقد الماضي، نسجت موسكو حضورها في سوريا كفاعل مقرّر في توازنات السلطة، وصاغت لنفسها صورة الحامي والضامن لثبات نظام الأسد. غير أن سقوط الأخير وضعها أمام فراغ هوياتي استراتيجي، حول الدور الذي يمكن أن تلعبه الآن وهي لم تعد صاحبة الحق الحصري في صياغة قواعد اللعبة.
هنا تصبح زيارة الشيباني لحظة اختبار لمدى قدرة موسكو على الانتقال من دور المُمسك بالمصير إلى دور الشريك الذي يتفاوض على المساحة والنفوذ، ضمن معادلة لا يحتكرها طرف واحد.
في العلاقات الدولية، تُعد الواقعية السياسية من أبرز الأطر التي تفسر سلوك الدول، إذ تنطلق من فرضية أن بقاء الدولة وأمنها ومصالحها الاستراتيجية هي الأولوية العليا في بيئة دولية مفتوحة للمنافسة. من هذا المنظور، يُفهم تمسك موسكو بوجودها العسكري في قاعدتي حميميم وطرطوس ليس فقط كأداة دفاعية أو لوجستية، وإنما كعنصر أساسي في الحفاظ على موقعها في توازن القوى الإقليمي. أما دمشق، فتعرف أن إدراك موسكو لهذه الأهمية يمنحها فرصة لاستخدام هذا الملف كورقة تفاوضية، حتى وهي تسعى لإعادة ضبط العلاقة بما يتناسب مع توجهاتها الجديدة.

 

يبقى البعد العسكري–الأمني أحد أكثر عناصر العلاقة بين موسكو ودمشق حساسية في اللحظة الراهنة. فالوجود الروسي على الأراضي السورية سواء في قاعدتي حميميم أو طرطوس يرتبط بطبيعة الترتيبات الأمنية التي ستتبلور في المرحلة الانتقالية.

هذا الوجود وإن توقف دوره المباشر في العمليات، ما زال يمثل نقطة تفاوضية محورية، لأنه يلامس مسألة السيادة ويدخل في صلب نقاش أوسع حول من يمتلك القرار في قضايا الأمن الوطني وضبط المجال الجوي والبحري. ولأن هذه الملفات عادة ما تكون مرتبطة بالتوازنات الإقليمية، فإن أي إعادة صياغة لدور القوات الروسية تتطلب اتفاقاً على إطار واضح للعلاقة، بما يضمن وضوح الصلاحيات ويحول دون أن يتحول الحضور العسكري إلى عامل يمكن توظيفه في سياقات سياسية خارج إطار الترتيبات المتفق عليها.

إلى جانب ذلك، تمثل الديون والعقود الموروثة من سنوات ما قبل سقوط نظام الأسد ملفاً لا يقل تعقيداً، إذ تتداخل فيه الجوانب الاقتصادية مع أبعاد سياسية واستراتيجية. فهذه الالتزامات المالية والعقود طويلة الأمد تعكس نمط العلاقة الذي ساد في المرحلة السابقة، وقد تكون الآن موضع مراجعة من قبل دمشق، سواء لإعادة التفاوض على شروطها أو لإيجاد صيغ أكثر انسجاماً مع احتياجاتها الفعلية.

حساسية هذا الملف لا تقتصر على قيمته الاقتصادية، بل تمتد إلى تأثيره المحتمل على مسار الاستقلالية السياسية والاقتصادية، إذ يمكن أن يتحول إلى مدخل لتجديد أشكال النفوذ أو فرض شروط جديدة إذا لم تتم معالجته برؤية واضحة ومتوازنة.
هذا وتشير نظرية إعادة التفاوض على العقود السيادية في الاقتصاد السياسي الدولي إلى أن التحولات الكبرى في بنية الحكم كثيراً ما تفتح المجال لمراجعة العقود طويلة الأمد التي أبرمتها الأنظمة السابقة، خصوصاً إذا كانت تحمل أبعاداً استراتيجية أو تترتب عليها التزامات مالية وسياسية كبيرة. هذه المراجعة قد تتم بدافع تصحيح اختلالات سابقة، أو لتكييف بنود العقود مع أولويات المرحلة الجديدة، أو لتقليص النفوذ الخارجي المتأتي منها.
في الحالة السورية، تشكل الديون والاتفاقات الموروثة من عهد الأسد مثالاً واضحاً على هذا النمط؛ فهي ليست مجرد التزامات مالية، بقدر ما تمثل جزءاً من شبكة نفوذ سياسي واقتصادي ترتبط بها موسكو مع دمشق. المرحلة الانتقالية قد تدفع دمشق إلى إعادة التفاوض على هذه العقود، سواء لتخفيف الأعباء المالية أو لتعديل الشروط بما يعكس توازن قوى مختلف. لكن هذه العملية تظل حساسة، إذ إن أي تعديل أو إلغاء قد يُقرأ في موسكو كإشارة إلى إعادة صياغة العلاقة برمتها، ما يجعلها أداة محتملة لإعادة توزيع النفوذ بين الطرفين.

حذر الضرورة في إعادة صياغة العلاقة مع موسكو

رغم وجود ملفات عملية مطروحة بين الجانبين، يبقى البعد النفسي والسياسي للعلاقة عاملاً حاسماً في وعي السوريين. فالذاكرة القريبة مثقلة بصورة روسيا بوصفها طرفاً مؤثراً في مسار الصراع وما رافقه من كلفة بشرية ومادية عالية، وهو ما يجعل أي تواصل معها مساراً معقداً يحتاج إلى قراءة متأنية للحساسيات الداخلية وضبط خطواته ضمن حدود مدروسة، بعيداً عن أي انفتاح غير محسوب أو مراهنات مبالغ فيها.

من غير المتوقع أن تسفر هذه الزيارة عن تحوّل فوري في طبيعة العلاقة بين الطرفين، لكنها ترسم إطاراً أولياً لمسار قد يتبلور لاحقاً. موسكو ستسعى إلى الحفاظ على حضورها الاستراتيجي عبر صيغة جديدة من الشراكة، بينما ستعمل دمشق الانتقالية على التحرك بالتوازي مع عواصم عربية وغربية مع الإبقاء على قنوات التواصل مع موسكو.

بهذا المعنى، تشكّل زيارة الشيباني إلى موسكو أول اختبار حقيقي لقياس قدرة الطرفين على تجاوز إرث الماضي وبناء علاقة تحكمها المصالح المشتركة أكثر من الحسابات التاريخية. فاللحظة السورية الراهنة لا تسمح برفاهية التحالفات المطلقة، بل تفرض إعادة تعريف الشراكات بما ينسجم مع واقع سياسي جديد، تتشابك فيه التحديات الداخلية مع التحولات الإقليمية والدولية.

وإذا ما نجح الطرفان في تحويل هذه الزيارة إلى بداية لمسار تفاوضي متزن، فقد تتشكل صيغة تتيح لموسكو الحفاظ على حد أدنى من موقعها في التوازنات الإقليمية، وقد تفتح أمام دمشق مجالاً محدوداً لإعادة ترتيب أولوياتها الخارجية. أما إذا أخفقا، فقد نشهد بداية انزياح تدريجي نحو شركاء آخرين، بما يعيد رسم خريطة النفوذ في سوريا ويغير من موقع موسكو الإقليمي.

في تجارب دول أخرى شهدت تحولات سياسية عميقة، ظل سؤال علاقة السلطة الجديدة بالقوى الخارجية أحد أكثر الملفات حساسية وإثارة للجدل. ففي جورجيا بعد الثورة الوردية عام 2003، واجهت القيادة الجديدة معضلة إعادة تعريف علاقتها بروسيا، بين إرث تاريخي من النفوذ المباشر وحاجة براغماتية للإبقاء على قنوات مفتوحة، ما قاد لاحقاً إلى توترات حادة بلغت ذروتها في حرب 2008. وفي السودان بعد سقوط البشير عام 2019، وجد المجلس الانتقالي نفسه أمام مروحة من الضغوط الإقليمية والدولية، واضطر إلى هندسة تحالفاته بحذر حتى لا يسقط في فخ الارتهان لمحور بعينه.

هذه الأمثلة تكشف أن مسار إعادة صياغة العلاقات الخارجية في المراحل الانتقالية غالباً ما يكون تفاوضاً على السيادة بقدر ما هو تفاوض على المصالح. وسوريا الجديدة، وهي تعيد ترتيب أولوياتها، تواجه مع روسيا سؤالاً شبيهاً يدور حول كيفية تحويل الإرث الثقيل لعقد من الارتباط المعقد إلى شراكة تتيح هامش قرار مستقل، من دون أن تُقفل أبواب التعاون الذي قد تفرضه ضرورات الجغرافيا والسياسة.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى