
أوشكَت لقاءاتي مع الدبلوماسيين والمسؤولين الغربيين والأفارقة أن تصبح مملةً من كثرة ما ردّدتُ مطلباً غاية في البساطة، في إطار حواراتنا المتكرّرة في الحالة السودانية، ولما لقيته من إجاباتٍ غير مفيدة، إن لم تكن مخجلة. هذا إن لقيتُ إجابةً. في حال كان الدبلوماسي من المستوى العادي، فإنه يكتفي بهزّ رأسه وتسجيل النقاط في دفتره، أو طرح بعض الأسئلة. أمّا إذا كان من المستوى الرفيع، فإنه يعطي إجاباتٍ أخجل من تردادها (غالباً ما تتصل بدولة معينة من منطقتنا، وحاجتهم إلى مداراتها لأنها تعينهم في حرب غزّة).
لا تحتاج النقطة البسيطة التي ظللت أكرّرها إلى اجتراح معجزة أو مخالفة المعهود، بل تتوافق تماماً مع السياسات المُعلَنة لتلك الدول. وتتلخّص في طلب بسيط بالضغط على مليشيا الدعم السريع لوقف ما ترتكبه من انتهاكات وكبائر لا تتوقّف في حقّ المدنيين، وما يتبع ذلك من تخريب للممتلكات العامّة والخاصّة، وإعاقة للإغاثة، وتدمير لأسس الحياة في البلاد.
أقول لجليسي (أو جلسائي)، الذي غالباً ما يزورني في المكتب، أو ألتقيه في الفندق الذي يقيم فيه، أو في منزل السفير، يا سعادة كذا وكذا، ألا ترى أن من الخطل طلب الحوار مع منظّمةٍ لا تملك التوقّف عن ارتكاب الانتهاكات التي هي في الحدّ الأدنى جرائم حرب؟ فهي تقتل بلا سبب، وتختطف الأطفال والفتيات والنساء وتمارس في حقّهن أقبح أشكال الاغتصاب وهتك الأعراض. وتشمل انتهاكاتها تدمير محطّات المياه ومصادرها، وتجريف المزارع، وأيضاً ما يمكن تسميته تجريفاً في حقّ الجامعات والمدارس والمستشفيات، ونهب الصيدليات والأسواق وتخريبهما، وتدمير محطّات توليد الكهرباء، وتخريب ونهب وسائط توصيلها من أسلاك وأعمدة ومحوّلات. يهزّ صاحبي (أو صاحبتي) الرأس في صبر، وقد يصرّح (أو تصرّح) بالعلم بهذه المنكرات، فيأتي دوري للتساؤل: أليست مثل هذه الجرائم من الكبائر المحرمات في قوانينكم والقانون الدولي؟ وأليس ارتكابها بصورة روتينية، وعلى مدار الساعة، وفي كلّ مكان وطئته أقدام هذه الجماعة المارقة من الموبقات؟… هزّة رأس أخرى وتصريح بأن حكومته/ ها قد أدانتها، وربّما فرضت عقوبات بشأنها.
لا يزال هناك وقت للخروج من المهلكة بإدراك استحالة إدخال مليشيا الدعم السريع في العملية السياسية
عندها أضيف نقطتي الأساس، أن الإدانة وحتى العقوبات لا تكفي. وما أرى أنه الأنجع أن توجّه الدولة المعنية رسالةً مباشرةً إلى هذه الفئة الباغية بأن عليها وقف هذه الجرائم فوراً، وبصورة كلّية، وأنه الشرط لقبولها في أيّ مكان في العالم، فضلاً عن أن يسمح لها بأن تكون جزءاً من الحكم في أي بلد. هل تقبلون في بلادكم أو محيطكم التعامل مع عصابات من هذا النوع (في المكسيك أو كولمبيا، أو هايتي مثلاً)؟… هنا نصل إلى نقطة صمت، تأتي بعدها وعود بعمل شيء. وينصرف معظم هؤلاء غير راشدين. ولكن بعض دولهم سرعان ما ترسل شخصاً آخر، خصوصاً إذا وقعت كارثة جديدة، أو لاحت بادرة تغير في الأوضاع، لتطرح الأسئلة نفسها أسئلة أخرى.
ولكن السودانيين هم الأوْلى باتخاذ المواقف الحازمة في مثل هذه الأمور، فلم يضلل المليشيا ويجعلها تمضي في غيّها إلا فئة من السودانيين زوّدتها بشعاراتٍ لا معنى لها، مثل “دولة 56” وغيرها من الترّهات، وأماني مثل أنها تقاتل في سبيل الديمقراطية. ولا أريد هنا إضاعة وقتٍ في الحديث عن “الحكومة” الجديدة التي أعلنها “الجنجويد”، إذ إنها جهاز علاقات عامّة فاشل مسبقاً. وقد أنشأوا قبل ذلك “إدارةً مدنيةً” من شخصٍ واحد في منطقة الجزيرة، فلم تفلح حتى في دور علاقات عامّة، ولم يفتح الله عليه حتى بتصريحاتٍ تبرّئ “الجنجويد” من فظائعهم. وكنتُ قد نشرت قبل أيّام تغريدة في “إكس” حول من يُنكر وجود الإبادة في غزّة، جاء فيها أن من يعتقد أنه لا توجد إبادة ومجاعة في غزّة عاطل عن الفهم، وبالتالي، لا يستحقّ أن يتولى أدنى مسؤولية عامّة، خاصّةً في الجامعات. أمّا من يعلم بالإبادة والمجاعة، ولكنّه يدلّس ويخادع، فهو عاطل أخلاقياً، وأقلّ جدارةً بأيّ مسؤولية. وهذه المقولة تنطبق على مناصري “الجنجويد” بحجّة أن الفئة المارقة منخرطة في مشروع إصلاحي في السودان، وأن مجرميها هم أحقّ من يدعم الديمقراطية في البلاد. فمن كان صادقاً فهو أجهل الجهلاء، ومن كان كاذباً فهو أخبث الخبثاء. وبينهم من جمع السوأتَين.
يبدو أنه استحالة أن تطهّر المليشيا الإجرامية في السودان نفسها من آثامها، فإننا نشهد توجّهاً أفريقياً ودولياً (وعربياً؟) موحّداً باتجاه التخلّص منها
مهما يكن، لا يزال هناك وقت للخروج من هذه المهلكة لمن لديه أدنى حدٍّ من الخُلق، ليدرك استحالة إدخال هذه المليشيا في أيّ جانبٍ من العملية السياسية، بل في أيّ جانبٍ من الحياة في السودان، بقيادتها الحالية وجنودها الملوّثين بهذه الفظائع. فلن يكون هذا الخيار مقبولاً من الغالبية الساحقة من السودانيين، الذين اكتووا بنار انتهاكاتها، وشهدوا تدمير بلادهم وكلّ ما ألفوه، وكلّ ما له قيمة في حياتهم من دراسة وعمل ومسكن وبيئة اجتماعية. هذا طبعاً يتعلّق بالحدّ الأدنى من قبول هذه المليشيا في المجتمع، أمّا مقترح المليشيا وداعميها المتحمّسين (أو المُكرَهين) بأن تكون هي الحاكمة في السودان، أو حتى أيّ جزءٍ منه، فهو أول المستحيلات، وليس ثالثها. يكفي أن أماكن سيطرتها في دارفور لا تزال تشهد أسوأ فظاعاتها من إبادة جماعية وتدمير للحياة، وحصار إجرامي للفاشر ينذر بكبائر أدهى. وأي شخص يصفّق للمليشيا في جريمتها المعتزمة هذه، ويتمنّى نجاحها جدير بأن يبوء بإثمها، ويتحمّل المسؤولية عمّا مضى من جرائم وانتهاكات، وما سيأتي، وأدناها ممّا يلقي كاسبه في سقر.
نعود إلى نقطة البداية، وهي المتعلّقة بردع المليشيا عن جرائمها وضلالاتها، عبر مواجهتها بصوتٍ واحدٍ باستنكار جرائمها التي تشبّهها بالطاعون، لم تدخل قريةً إلا وكانت أداة خرابها. وما اجترحته لم تشهده نواحي الأرض حتى في عصر المغول، وكلّ عصور الاستعمار. فكلّ جهة غازية، أو حكومة غاشمة، تسمح للناس بالاستمرار في معاشهم لتستفيد منه. أمّا هذه الجائحة الطاعونية الجنجويدية، فإنها عطّلت الطرقات، ودمّرت المكاتب وأماكن العمل، وأعاقت التجارة والصناعة والزراعة، وفرضت على من بقي الإقامة الجبرية في البيوت. ولم يؤمنهم هذا من الانتهاكات، حتى اضطرّ كلّ من استطاع إلى الفرار. في الجزيرة مثلاً نهبتْ مخزون الطعام في البيوت، بل كانت من جهلها وخطلها، تدخل المنازل في نهار رمضان، فتأخذ ما أعدّته الأسر للإفطار في الشهر الكريم، بدعوى أنهم أولى بالإفطار، كأنّ الصوم عن الطعام أولى بالصوم عن القتل والنهب وانتهاك حرمات المؤمنين. زادوا فنهبوا ما أعدّه الناس من بذور وأدوات للزراعة، كما نهبوا كلّ الدواب والأنعام والسيارات والجرّارات، فاستحال البقاء لانعدام الطعام والعجز عن الزراعة، وقد وجد من عادوا إلى قراهم بعد أن حرّرها الجيش أن الحشائش قد غطّت المنازل بسبب غياب الحيوانات التي كانت تتغذّى منها، والناس الذين كانوا يعالجونها بالقطع.
توجّه أفريقي ودولي (وعربي؟) موحّد باتجاه التخلّص من “الدعم السريع” باعتباره مفتاح الحلّ في السودان
وقد كتبت في مقال سابق في “العربي الجديد” عن دهشتي لاستمرار هذه العدوانية، حتى في مناطق دارفور التي يعتبرونها “حاضنتهم” وديارهم (استمعتُ إلى أحد القيادات القَبلية يستنكر قيام هؤلاء (في تسجيل مصوّر جادّاً غير هازل) بممارسة النهب والاقتتال فيما بينهم، ممّا قد يوردهم قاع جهنم، داعياً إياهم بدلاً من ذلك إلى النهب في مناطق أخرى، مثل الخرطوم وغيرها، ولكنّهم، بخلاف حسن الظنّ مارسوا في نيالا (وغيرها) ما اعتادوا من النهب وهتك الأعراض وحرق الأسواق، وزادوا بحرق وتدمير المباني التي نهبوها، خاصّة الجامعات، ممّا يعني أنه لا يوجد في هذه الفئة رجل رشيد، أو قائد له ذرّة عقل، ينهاهم على الأقلّ عن تدمير ما نهبوا.
ونحن نتمنّى (ولا نتوقّع) أن يكون في أولياء هذه الفئة المارقة من “سياسيين” و”مثقّفين” عقلاء يذكّرونهم بأن مثل هذه العقلية التدميرية هادمة للعمران، وغير مؤهّلة لهم للقبول في أيّ مجتمع قديم ولا حديث، فضلاً عن أن تكون هي الطريق للديمقراطية المزعومة في السودان، ولا غيره. ونرجو أن تكون فيهم بعض الشجاعة (وهم في المنافي البعيدة التي لا تطاولها يد البريرية هذه) لينبّهوا قيادات هذه العصابات إلى أن مثل هذا السلوك مهلك لهم قبل غيرهم. فهم كالجراد، ما حلّ بزرع إلا أهلكه، ممّا يضطرهم باستمرار إلى التحرّك إلى حقل آخر يتركونه خراباً يباباً.
ولكني غير متفائل (للأسف!) بعودة الوعي إلى غالب هؤلاء، فقد قرأت لأحد قادتهم إشادةً بالمليشيا، زاعماً أنها منحت “الثوار” الحماية. وهو يعلم (كما نعلم ويعلم العالم كلّه) أن المليشيا هي مَن فضّ الاعتصام، وكان هو ورهطه يتفاوضون مع قادتها على الحصانة من الملاحقة في هذا الأمر، إذا انحازت إلى صفّهم ضدّ الجيش. ولكن التفاؤل يأتي من أن هذا الكيان الوحشي هو ذاتي التدمير، وسينقرض ومَن راهن عليه رهاناً سياسياً خاسراً. كفى أننا نرى أن الكيانات السياسية المفلسة سياسياً وأخلاقياً قد بدّدت كلّ ما كان لها من دريهمات الرصيد في الانحياز لها، وهو انحياز كانت تنكره عندما كان لا يزال لها قليل من الحياء، ونزر من الميكيافيلية. وما نراه اليوم من مجاهرة بهذا الإثم/ الفضيحة ما هو إلا عملية انتحارية لمن يئس من كلّ خير.
ومع ما يبدو أنه استحالة أن تطهّر المليشيا الإجرامية نفسها من آثامها، فإننا نشهد توجّهاً أفريقياً ودولياً (وعربياً؟) موحّداً باتجاه التخلّص منها، باعتباره مفتاح الحلّ في السودان. ما أرجوه هو أن يتحقّق ما ظللنا ندعو أليه من إرسال رسالة جماعية للمليشيا (وخدّامها) بالتخلّي عن النهج الانتحاري المضرّ بهم وبالبلاد، وإن كان انتحارهم لا يسوؤني إطلاقاً.