
إن وجود الطوائف في أي دولة أو جغرافيا لا يعني تعميم الطائفية أبدًا، كفكر سائد ومتحرك مجتمعيًا وإنسانياً، لكن لا يمكن مطلقًا أن تتمظهر الطائفية وجوديًا وفعليًا من دون وجود الطوائف.
وهو حال الوطن السوري اليوم، الذي سبق وقد بذر فيه حافظ الأسد، ثم ابنه بشار الأسد بذورًا للطائفية المقيتة، ثم أسهم بشكل مقصود وممنهج وعملي في إنتاش الكثير من بذورها، حتى باتت هذا الطائفية نارًا تحت الرماد، وبؤرة متوقدة سلبيًا في أي لحظة، وأي مكان من الجغرافيا السورية الممتدة على غير ما كانت عليه أحوال السوريين خلال عشرات السنين من التعايش والعلاقات المنجدلة والمحبة والتآلف الذي أوصل الأوضاع السورية إلى مشاركة حقيقية وفي كل مفاصل الدولة لكل الأثنيات والطوائف.
السعار الطائفي ومتابعة الاشتغال على وتر الطائفية لا يمكن أن يبني وطنًا، ولا ينجز أي وحدة وطنية، ولا يقيم دولة متماسكة ولا يسهم أبدًا في إعلاء سور الوطنية السورية، بل يذهب بنا بعيدًا إلى مآلات انفصالية متضادة متناحرة
اليوم وبكل أسف فإن ما جرى في محافظة السويداء أعاد المسألة الطائفية إلى الواجهة من جديد، كما أعاد تموضعها أيضًا بشكل لم يكن متوقعًا، حتى بتنا نشهد سعارًا طائفيًا غير مسبوق وتحاجزًا داميًا على مستوى الواقع والفكر فأُغرقت وسائل التواصل الاجتماعي وعلى مستوى واسع بالمزيد من حالات هذا السعار الخطر، والذي سيؤدي فيما لو استمر إلى الكثير من التفتت والتشتت والانقسام، وسط متابعة حثيثة وتدخل خارجي واضح، ليس آخره ذلك الدور الإسرائيلي الأخطر، والذي يريد إذكاء روح الفرقة وخطاب الكراهية تمهيدًا لإقامة ما سمته إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو (ممر داوود) والهيمنة على سورية والمنطقة برمتها لبناء ما أطلق عليه (الشرق الأوسط الجديد) وطموحه بالوصول إلى تسمية يريدها أن تكون سمة للعصر الذي يطلقون عليه اسم العصر الإسرائيلي المبتغى.
السعار الطائفي ومتابعة الاشتغال على وتر الطائفية لا يمكن أن يبني وطنًا، ولا ينجز أي وحدة وطنية، ولا يقيم دولة متماسكة ولا يسهم أبدًا في إعلاء سور الوطنية السورية، بل يذهب بنا بعيدًا إلى مآلات انفصالية متضادة متناحرة، تهدم ولا تبني، تفتت ولا تجمع، تعيد الكرة من جديد في عملية إشاعة الفكر الاستبدادي الذي لا يقبل الآخر أي آخر المختلف عنه دينيًا أو طائفيًا أو أثنيًا أو أيديولوجيًا، وهو ما يمكن أن يشكل الخطر الأكبر ويعيد إنتاج الحرب والمزيد من الدماء.
الطائفية لا يمكن أبدًا أن تكون مدخلًا لبناء الأوطان والابتعاد عن الحوار لا يمكن أن يسهم في الاستقرار أو الوجود القوي، كدولة بل هو بالتأكيد ما يكون فيما لو استمر بوابة عبور نحو (ليس الفدرلة فحسب) بل الاحتراب الداخلي الأهلي الذي قد يفضي إلى إقامة دويلات
متناثرة صغيرة وضعيفة، يسهل على أعداء الوطن النيل منها، أو جرها إلى ملاذات ومآلات ليست في مخيال السوريين، ولم تكن كذلك ضمن الفكر الجمعي للسوريين يومًا.
لعل إشكالية محافظة السويداء وما جرى فيها مؤخرًا، يمكن أن تحل حلًا موضوعيًا رصينًا وواعيًا وهادئًا، ضمن مسارات مزيد من الوعي المجتمعي والسياسي، ثم فتح باب الحوار السوري على مصراعيه، وهذا الحوار والانفتاح والمشاركة الجدية للجميع هو مساهمة في بناء دولتهم، وهو وحده ما يمكن أن يكون مدماكًا مهمًا ومتينًا للبناء والعمل على وحدة الوطن شعبيًا وجغرافيًا. ولعل هذا الحوار المطلوب اليوم هو ما سيكون سياسة حقيقية لحصار ومحاصرة تلك المجموعات الصغيرة سياسيًا ووطنيًا ومجتمعيًا وليس عسكريًا فقط، تلك المجموعات التي ارتضت لنفسها أن تكون أداة من أدوات استدعاء الخارج والاستقواء به ومناشدة عدو الوطن والأمة، ذاك الإسرائيلي كي يكون مشاركًا فاعلًا ولاعبًا في الورقة الوطنية السورية، حيث تريد إسرائيل أن تطل من جبل العرب والسويداء كي تحقق ما عجزت عن تحقيقه في سياقات ومسارات أخرى.
يمكن القول اليوم وبكل وضوح، ليس من العقلانية السياسية الدخول في حلول عسكرية فحسب فالحل الوطني السوري الديمقراطي سيوقف المنطق الطائفي.
لم تكن القطيعة الوطنية الداخلية يومًا ضمن مكونات الفعل السياسي الواعي للسوريين كما لم تكن حلًا موضوعيًا ولا ممكنًا لمشكلاتهم، ولم تكن إسرائيل أبدًا ملاذا آمنًا ممكنًا للسوريين، أو أي شعب عربي في المنطقة. إن المشروع الصهيوني وجد كي يكون إسفينًا تفتيتيًا في جسم العرب والمسلمين، وليكون ذاك المخفر المتقدم للمشروع الغربي في المنطقة. ولعل ضعف العرب والنظام الرسمي العربي على مدار العقود الأخيرة، وافتقادها الواقعي لأي مشروع جدي في مواجهة هذه العربدة الإسرائيلية، أو قبلها الهيمنة الإيرانية في المنطقة، هو ما أوصلنا إلى هذه الحالة من الفوات غير المسبوق.
لكننا اليوم وقبل أي مسألة أخرى، لا بد من إعادة فتح الحوار السوري بين كل طوائف وإثنيات وأيدولوجيات كل السوريين، فلا مقدس في العمل الوطني، فكل شيء قابل للحوار وإبداء الرأي، لكن المطلوب اليوم طرح رأي جموع السوريين، على بساط أحمدي كما يقال، والعمل على إنتاج حالة سورية من الحوار الوطني المديد، والذي لا ينقطع، الحوار وحده بحق والمزيد منه هو الذين يمكن أن يبني مؤسسات الدولة، ومن ثم إعادة بناء الدولة الوطنية السورية، والعمل الحقيقي بجد من أجل الوصول إلى هذا العقد الاجتماعي الوطني السوري الجامع ومشاركة كل السوريين بلا استثناء، في عملية بناء دولة المواطنة السورية المبتغاة، ومن هنا يمكن القول اليوم وبكل وضوح، ليس من العقلانية السياسية الدخول في حلول عسكرية فحسب فالحل الوطني السوري الديمقراطي سيوقف المنطق الطائفي، ولإنهاء السعار الطائفي ومنع خطاب الكراهية لا بد من حوار جدي وحقيقي بين كل السوريين، كما يحتاج إلى إعادة قوننة جدية عبر إنتاج قوانين وضعية سورية، تجرم الخطاب الطائفي لمنع خطاب الكراهية الطائفي بشكل نهائي، ووقف كل حالات التشتت والتفتيت والتشظي، وهو ما سيمنع الاقتتال الداخلي بين السوريين، وإلى النهاية العاقلة، ويوقف أزمة الثقة كليًا .
المصدر: تلفزيون سوريا