من الجنوب السوري إلى جبل لبنان: حكمة العقلاء تواجه الفتنة

  إبراهيم الرز

في خطوة مفاجئة أعادت خلط الأوراق في الجنوب السوري، أعلنت الرئاسة السورية في 19 تموز 2025 وقفًا شاملًا وفوريًا لإطلاق النار في محافظة السويداء، بعد أسبوع دامٍ شهد مواجهات غير مسبوقة بين فصائل درزية مسلّحة وعشائر بدوية، وتدخّلًا مباشرًا من إسرائيل عبر غارات جوية استهدفت الجيش السوري بحجة “حماية الدروز”.

الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه بوساطة أمريكية لم ينجح بعد في وقف الاشتباكات، لكنه قد يشكّل تطوّرًا لافتًا، إذا ما صمد، في محافظة ظلّت لسنوات على هامش النزاع السوري، واحتفظت بهامش من الخصوصية والتمايز داخل المشهد المعقّد للجنوب السوري.

لكن هذه الخصوصية باتت مهددة بالزوال، والأخطر أن تداعياتها قد تتجاوز الحدود إلى لبنان، فقد انتشرت الاحتجاجات في المناطق الدرزية من جبل لبنان، حيث تم قطع طريق صوفر – عاليه تعبيرًا عن التضامن مع أهل السويداء.  كما أن بعض البلديات الدرزية فرضت حظر تجوّل ليلي على السوريين المقيمين، خوفًا من تفاقم التوتر، وسُجّلت حالات اعتداءات متفرقة على لاجئين سوريين. في المقابل، اندلعت تظاهرات مضادة في طرابلس وعكار، تعبيرًا عن التضامن مع العشائر السنّية، وحتى وصلت مطالب البعض بفتح الحدود للالتحاق في الجبهات.

إلا أن النائب هادي أبو الحسن يؤكد لـ”المدن” أن ” هذه الأحداث، رغم خطورتها، لن تترك أثرًا في لبنان، لأن العلاقة بين الدروز والمسلمين السنة تقوم على وعي مشترك وحرص متبادل على أفضل العلاقات”. ويضيف: “هذا الحرص يترجم يوميًا عبر اللقاءات والتنسيق والتواصل بين المرجعيات السياسية والدينية من الطرفين، كما أن الطائفة السنية الكريمة أثبتت مرة بعد مرة مسؤوليتها الوطنية ورفضها لأي انجرار خلف الفتنة”.

وفي هذا السياق، يؤكد المستشار الإعلامي لشيخ عقل طائفة الموحّدين الدروز في لبنان الشيخ عامر زين الدين لـ”المدن”: “أن التاريخ المشترك بين الطائفتين السنية والدرزية حافل بعلاقات الودّ والاحترام المتبادل، وأيضًا المصير المشترك في كثير من المحطات التي مرّت بها الطائفتان على مدى قرون وعهود. ونحن نعوّل دائمًا على حكمة العقلاء لتفويت الفرصة على المصطادين في الماء العكر وأصحاب المخططات المشبوهة”.

ويضيف: “إن العلاقة بين الطائفتين في لبنان كانت على مرّ التاريخ وستبقى علاقة متينة، وهذا نتاج التعاون المشترك بين القيادات الدرزية والسنّية، وعلى رأسها سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية ومفتي المناطق، من أجل عدم الوقوع في شرك الفتن التي يريدها للطائفتين أعداء الإنسان”.

بنود الاتفاق: وقف نار وعودة الدولة

نصّ الاتفاق على وقف إطلاق نار فوري، وعودة كاملة لمؤسسات الدولة إلى السويداء، وسط ضمانات دولية. كما قضى بدمج الفصائل المسلحة ضمن أجهزة الدولة الأمنية، ونزع الأسلحة المتوسطة والثقيلة، وتشكيل وحدات أمنية مشتركة من أبناء المحافظة لضمان الاستقرار. وللمرة الأولى، تضمن الاتفاق بندًا واضحًا حول “التمثيل السياسي للطائفة الدرزية”، في محاولة لتبديد هواجس التهميش ومخاوف التغيير الديمغرافي. كما أن الاتفاق تضمن نقطة مهمة تمثلت بتأمين “ممرات آمنة” لمن يرفض الالتزام ببنوده، في إشارة واضحة إلى استعداد دمشق لفرض سيادتها.

عن هذا الموضوع، يضيف الشيخ زين الدين: “نحن نطالب الدولة السورية، المسؤولة بالدرجة الأولى عن ما جرى، بتطبيق هذا الاتفاق والالتزام به، وأن تُطهّر من صفوفها المجموعات المتطرّفة الذين يتسترون بعباءة الدولة، وهم من قاموا ونفّذوا تلك الجرائم والانتهاكات والارتكابات التي لا يقبلها عقل ويندى لها جبين الإنسانية”.

هل تصمد الهدنة؟

من جهته، يقول النائب هادي أبو الحسن لـ”المدن”: “ما جرى التوصّل إليه من وقف لإطلاق النار في السويداء يُعدّ خطوة مهمة، لكن لا يمكن الجزم بانتهاء المشكلة عند هذا الحد. فالاتفاق لا يزال هشًا، والمطلوب من جميع الأطراف المعنية، داخلية وخارجية، تثبيت هذا الاتفاق ومراقبة تنفيذه”.

ويشدد أبو الحسن على أن “أي خرق أو محاولة تخريبية من قبل المندسين قد تعيد إشعال الوضع، ما يستوجب تنسيقًا دائمًا بين وجهاء المنطقة والدول الراعية لوقف إطلاق النار، والعمل على تأمين ظروف الانتقال نحو مصالحة حقيقية بين مختلف مكوّنات المجتمع السويدائي – البدوي، الذين ينتمون جميعهم إلى نسيج وطني سوري واحد”.

وتوقّف أبو الحسن عند ما سمّاه “التهديد الإسرائيلي”، معتبرًا أن “إسرائيل لطالما سعت إلى زرع الفتنة داخل المجتمعات العربية، مستفيدة من الانقسامات الطائفية والعرقية، وهي اليوم تحاول استغلال التوتر في السويداء للقول إنها تحمي الأقليات، تمهيدًا لتدخّلها لاحقًا تحت هذا العنوان”.

وأضاف: “هذا المشروع ليس جديدًا، وقد حذّر منه مرارًا الزعيم وليد جنبلاط، الذي لطالما أطلق ناقوس الخطر من محاولات تفكيك المنطقة عبر تغذية النزاعات الداخلية”.

وهنا يقول الشيخ عامر زين الدين: “لا ننتظر من إسرائيل إلا ما يلبي مصالحها الشخصية، فهي تمثّل مشاريعها ومخطّطاتها التي تعبّر عن أطماعها، ليس في السويداء فحسب، بل في كل الأماكن والدول التي احتلّتها أو اعتدت عليها”.

ويضيف: “إن الحكمة التي يتحلّى بها الزعيم وليد جنبلاط وسماحة شيخ العقل في هذه الظروف هي عنصر أساسي، باعتبار أن المرحلة الدقيقة تحتاج إلى عقلانية ورويّة، وكما يُقال: الرأي قبل شجاعة الشجعان”.

ويتابع: “نُعوّل على حكمة الدولة السورية والعقلاء والشيوخ في المنطقة لتثبيت هذا الاتفاق، والذهاب إلى مرحلة ثانية من الحوار، حقنًا للدماء ودرءًا للفتنة، باعتبار أن هذا الحوار هو السبيل الأجدى لاحتواء الموقف، وتحقيق المطالب المحقة التي لطالما طالب بها أهالي مدينة السويداء”.

في الانتظار

وتجدر الإشارة إلى إن تاريخ النزاع السوري مليء باتفاقات مشابهة لم تُعمَّر طويلًا. فالمعضلة لا تكمن فقط في بنود الاتفاق، بل في الإرادة السياسية لتنفيذه، والقدرة على ضبط الفصائل المتفلّتة، والحدّ من تأثير اللاعبين الإقليميين.

كما أن إدماج الفصائل المحلية ضمن أجهزة الدولة سيصطدم بعقبات تتعلّق بالثقة، وآليات العمل، وتوازنات النفوذ داخل المحافظة. يُضاف إلى ذلك أن النزاع، وإن بدا محليًا، يتقاطع مع صراعات إقليمية تتجاوز حدود السويداء، تبدأ من جنوب سوريا ولا تنتهي عند حدود الجولان المحتل.

في الأيام المقبلة، ستبقى السويداء تحت المجهر، وأي تصعيد أمني قد تشهده، قد يجد له في لبنان ارتدادات، ربما تترك ندوبا في النسيج الاجتماعي بين الدروز والمسلمين السنة، وتحديدا في المناطق المختلطة في منطقة الشوف وغيرها، التي لم تشهد تاريخياً أي أزمات بين الطائفتين. لذا يشكل الاتفاق على وقف أطلاق النار اختباراً مزدوجاً لقدرة دمشق على إعادة بسط نفوذها بسلاسة، ولاستعداد الطائفة الدرزية للعودة إلى كنف الدولة ومؤسساتها. فهل نكون أمام بداية تهدئة فعلية، أم مجرّد هدنة بين جولات قادمة من العنف؟ وأي انعكاس لها سيشهده لبنان؟

المصدر: المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى