
وسط المعادلات الجيوسياسية الجديدة، وما تشهده المنطقة من تحولات سياسية عميقة تعيد رسم خريطة النفوذ والتحالفات في الشرق الأوسط، وفي وقت تتقاطع فيه الملفات الكبرى من اليمن إلى غزة، ومن طهران إلى دمشق وبيروت، تفتح الولايات المتحدة الأميركية الباب واسعًا أمام أدوار جديدة للدول التي كانت على هامش التأثير الإقليمي خلال العقد الأخير، وفي مقدمتها سوريا، التي تستعيد مكانتها خارج التصنيف الإرهابي أو المتصدر لقائمة المعاقبين دولياً. ما يقود إلى لحظة إعادة ترتيب للمشهد الشرق أوسطي بكليته، مع التركيز على سوريا باعتبارها نقطة التقاء إقليمي بين المحاور المتصارعة، وممرًا طبيعيا للربط الاقتصادي والسياسي بين المنطقة الشرق أوسطية والعالم.
ضمن ذلك، لا يمكن تجاهل التصريحات الأميركية الأخيرة حول لبنان والعلاقة المتداخلة مع سوريا، بوصف الأخيرة حاضنة ما كان يسمى بلاد الشام، (التي تضم سوريا، لبنان، الأردن وفلسطين)، وهي وإن حملت طابعاً تهديدياً، تُظهر اعترافاً ضمنياً، بأن استقرار لبنان لا يمكن أن يُفصل عن محيطه الطبيعي، وبأن الفراغ السياسي في بيروت لا يمكن ملؤه من دون شراكة سورية-عربية تتيح للبنان الخروج من أزماته المتشابكة.
لكن هل يعني هذا إعادة إنتاج وصايات أو أدوار قديمة؟ أم أنه مجرد “تهويش إعلامي” بما يمكن أن يشكله تدخل النظام السوري الجديد بطابعه الإسلامي وخلفيته الجهادية، لوضع سكة الحلول اللبنانية على مسار التطبيق، بعد تراخي الأطراف في التعامل معها؟ وضمن ذلك استعادة دور سوريا كلاعب مطلوب لصياغة هندسة التوازن الاقليمي. ولعل ذلك كان يمكن تفهمه لبنانياً، في ظل علاقات بينية حديثة، وليس من موقع القوة فقط، أو الرغبة الأميركية، بل من باب المسؤولية الإقليمية الجديدة التي قد تتسلمها حكومة دمشق (الجديدة) كجزء من صفقة استقرار أكبر في المنطقة.
طبعا، ظلت العلاقة السورية ـ اللبنانية تاريخياً محفوفة بالتوتر في كافة العقود. إذ خرج البلدين من عباءة بلاد الشام، وتالياً من إسار الفكرة القومية، إلى عهد الاستقلال لشعبين في بلدين. بيد إن ذلك التوتر تفاقم أكثر بسبب من عوامل خارجية، وليس بسبب عوامل داخلية. فمنذ البداية وجد البلدان نفسيهما إزاء نظامين سياسيين مختلفين، فقد بني النظام السياسي في لبنان على أسس ديمقراطية، برلمانية، طائفية، في حين بني النظام السياسي في سوريا على أساس نظام “جمهوري”، مركزي، أفضى فيما بعد إلى نظام تسلطي بكل معنى الكلمة، خصوصاً في عهد نظام الأسد (الأب والإبن).
وبسبب من ذلك، فقد عرف لبنان نوعاً من الحريات الديمقراطية، بما فيها حرية الأحزاب والإعلام والحريات الشخصية، والانتخابات البرلمانية، والتداول على السلطة، والاقتصاد الحر، في حين لم تشهد سوريا شيئاً من ذلك، ما شكل أساساً للتوتر المضطرد بين النظامين في البلدين.
وشكلت إسرائيل والصراع العربي الإسرائيلي سبباً آخر للتوتر، وسهل تمركز المقاومة الفلسطينية في لبنان، بعد إخراجها من الأردن (1970) من حيث تدري أو لا تدري، أن تلعب الحركة الوطنية الفلسطينية دور حصان طروادة للنظام السوري، حيث تمكن من إدخال جيشه إلى لبنان، بدعوى وقف “الحرب الأهلية” فيه (1976)، الأمر الذي جعله يهيمن على الشعب والدولة، وعلى الأحزاب والإعلام، لثلاثة عقود (1976 ـ 2005).
وفي مرحلة امتدت لعقدين من الزمن، من العام 2005 إلى العام 2024، بات النفوذ السوري في لبنان غاية في الضعف، خصوصاً بعد موجة اغتيالات مارسها النظام وأعوانه لساسة ورموز لبنانية، وبعد اندلاع الثورة السورية (2011)، إذ بدا أن هذا النظام بات مديناً لإيران، وأذرعها الميلشياوية، وتحديداً “حزب الله”، بالبقاء. الأمر الذي انتهى بعد “طوفان الأقصى”، وحرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على الفلسطينيين في غزة (أواخر 2023)، والتي وصلت تداعياتها إلى شن إسرائيل حرب مدمرة في لبنان أدت إلى تقويض البنى العسكرية لحزب الله، واغتيال قيادته، مع حرب معلنة على إيران. وقد وفرت حرب الإبادة الإسرائيلية معطيات إقليمية ودولية أدت إلى انهيار النظام السوري، جملة وتفصيلاً، لصالح فصائل المعارضة المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام.
على ذلك، فإن البلدين يعيشان في هذه الظروف في طور مرحلة جديدة في العلاقات بينهما، مع نظامين جديدين في سوريا ولبنان، ومع معطيات عربية وإقليمية ودولية مختلفة عن السابق، خصوصاً بعد انتهاء نفوذ إيران في المشرق العربي. ما يجدر بناء تفاهمات تتجاوز مخلفات الماضي، والترويجات المتسرعة، والمغرضة، التي تتحدث عن الجولان مقابل طرابلس، أو عن العودة إلى فكرة بلاد الشام.. فكلها مجرد ادعاءات وتصريحات لا أساس مادياً أو قانونياً لها.
في ظل التحولات المتسارعة في المنطقة، تبرز الحاجة إلى دور سوري- لبناني متوازن لا يُبنى على الأوهام التاريخية أو المشاريع العابرة للحدود، بل على رؤية وطنية واقعية تستند إلى المصالح المشتركة والاحترام المتبادل بين الدول. والتعاطي المسؤول مع هذه المتغيرات في كلا البلدين، هو ما سيحمي الاستقرار ويصون القرارات الوطنية في وجه العواصف المقبلة. ولعل أولى الخطوات يفترض أن تأتي من لبنان، بالإفراج عن معتقلي الرأي السوريين، الذين تم الزج بهم في السجون اللبنانية في الحقبة الماضية، وإنهاء حالة الفوضى على الحدود والاعتداءات المتكررة على عناصر الأمن العام.
إن مستقبل العلاقة بين سوريا ولبنان، كما سائر محيطها، ينبغي أن يُبنى على أسس السيادة والتكامل الاقتصادي والتعاون الأمني، بعيدًا عن أي خطاب وحدوي ماضوي أو وصاية سياسية، أو تصفية حسابات دولية تستخدم سوريا كذراع لها في المنطقة.
المصدر: المدن