السوسيولوجيا ومخاطر التطبيع في المغرب

محمد أحمد بنّيس

انطلقت، الأحد الماضي في الرباط، أشغال المنتدى العالمي الخامس للسوسيولوجيا بمشاركة باحثين من مختلف البلدان، وسط جدل بشأن مشاركة باحثين من دولة الاحتلال. وقبيل انطلاق أشغال المنتدى، التي تتواصل إلى يوم غد الجمعة، وقّع باحثون وأساتذة جامعيون، مغاربة وأجانب، بياناً أعلنوا فيه مقاطعتهم المنتدى. في السياق ذاته، شهد محيط مسرح محمّد الخامس بالرباط، الأحد المنصرم، وقفةً احتجاجيةً دعت إليها ”الحملة المغربية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل”، بسبب احتمال مشاركة باحثين إسرائيليين في المنتدى. وعلى الرغم من موقف الجمعية المغربية للسوسيولوجيا ”بعدم الترحيب بأيّ منتمٍ إلى الكيان الغاصب ولو ضمن أنشطة علمية وأكاديمية”، وتعليقِ الرابطة الدولية للسوسيولوجيا عضويةَ الجمعية الإسرائيلية للسوسيولوجيا على خلفية ”عدم اتخاذها موقفاً يُدين الوضع المأساوي في غزّة”، في ما يبدو انتصاراً لعدالة القضية الفلسطينية وقطيعةً مع ”الحيادية العلمية”، التي طبعت موقف الرابطة إزاء الصراع عقوداً، على الرغم من ذلك، لا تزال المعطيات، إلى كتابة هذه السطور، متضاربةً بشأن حضور باحثين إسرائيليين في المنتدى.

وفي وقت تؤكّد الجهة المنظّمة عدم حضور هؤلاء، إلا أن عدم حذف مشاركتهم من الموقع الإلكتروني للرابطة الدولية للسوسيولوجيا يطرح أكثر من علامة استفهام، سيّما في ظلّ إمكانية حضورهم أشغال المنتدى بصفاتهم باحثين معتمدين في مؤسّسات علمية دولية أخرى. ولعلّ هذا ما يفسّر (ربّما) انسحاب باحثين مغاربة وأجانب، نهاية الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، من المنتدى، بناء على مؤشّرات معينة، كانت تنبئ بمشاركةٍ إسرائيليةٍ في أشغاله بشكلٍ أو بآخر. وهو ما أشارت إليه الحملة المغربية، حين اعتبرت أن تجميد عضوية الجمعية الإسرائيلية للسوسيولوجيا ”لا يعني بالضرورة عدم مشاركة ممثّلي جامعات الإبادة في المنتدى”.

منذ تأسيسها، لم تألُ دولة الاحتلال جهداً في تسخير كلّ الموارد الممكنة لترويج سرديّتها، بما في ذلك توظيف الأكاديميا، بسلطتها المعرفية المعلومة، في تطويع الوقائع والحقائق التاريخية والجغرافية والثقافية لأجل خدمة مشروعها الاستيطاني. وقد خوّلها ذلك اختراقَ جامعاتٍ ومعاهدَ ومراكزَ أبحاثٍ ومؤسّساتٍ علمية وأكاديمية دولية مرموقة، وعرضَ سرديتها مستثمرةً خطاب ”معاداة السامية” بكلّ ”جاذبيته التاريخية”. غير أن التداعيات التي أعقبت “7 أكتوبر” (2023) جعل توظيف إسرائيل الأكاديميا أمراً في غاية الصعوبة، بعد أن بلغ التوحّش الإسرائيلي أطواراً غير مسبوقة في تاريخ البشرية، بشكل لم يعد ممكنا تجاهله حتى داخل المجتمعات العلمية الأكثر حياديةً وموضوعيةً.

لقد وفّرت الأكاديميا الإسرائيلية الغطاء المعرفي والعلمي لسياسات الاستيطان والتهويد والأسرلة والإبادة والتطهير العرقي والحصار والتجويع، التي تقودها حكومة بنيامين نتنياهو المتطرّفة، هذا فضلاً عن تقديمها الخبرة العلمية والتكنولوجية اللازمة للموساد والجيش لتنفيذ مخططاتهما في ملاحقة القيادات السياسية والعسكرية الفلسطينية وتصفيتها، وهو ما يجعلها ضالعةً، بشكل أو بآخر، في الجرائم الإسرائيلية بحقّ الشعب الفلسطيني. إن مؤسّسات مثل الجامعة العبرية في القدس، وجامعات تل أبيب وبار إيلان وبئر السبع وغيرها لا يمكن، بحكم الأمر الواقع، أن تكون خارج منظومة التوحّش الإسرائيلي، بما تقدّمه من خبرة متعدّدة الأوجه لأجل تطوير هذه المنظومة وتعزيز فاعليتها في مواجهة ”الخطر الفلسطيني”.

من المهم جدّاً أن تعيد حربُ الإبادة في غزّة إلى الواجهة سؤال ”الحيادية العلمية” في مواجهة حروب الإبادة والتطهير العرقي، التي قد تنزلق إليها بعض الصراعات، التي كانت تتطلّب، في لحظة ما، الحيادية في التعاطي مع سردياتها المتصارعة، وهو ما ينطبق (إلى حدّ كبير) على القضية الفلسطينية. وإتاحة الفرصة لباحثين ومؤسّسات أكاديمية من دولة الاحتلال لعرض ما قد يبدو ”أطروحات أو أفكارا أو زوايا نظر”، ليس في الواقع إلا شرعنةً لمنظومة التوحّش الإسرائيلي وتبنّيا لسرديتها، التي تشكّل المعرفة السوسيولوجية إحدى ركائزها الرئيسة.

الفظاعات التي يرتكبها الكيان الصهيوني بحقّ الوجود الفلسطيني في غزّة، وعموم فلسطين، تُسقط أيَّ ذريعة علمية وأكاديمية لتبرير استقبال باحثين ينتمون إليه على التراب المغربي، لما لذلك من مخاطر على صعيد توسيع التطبيع المغربي الإسرائيلي وتنويع مجالاته.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى