
كان المفكر المغربي محمد عابد الجابري رحمه الله ينظر إلى العلاقة مع التراث من منظوره الخاص، وكان يقف على المسافة ذاتها من كارهي التراث ومنكريه ومن مقدّسيه بالمقابل. كان الجابري يرى أنّ التراث حقيقة موجودة، لكنّ التعامل معه يجب أن يبتعد عن حدّي المعادلة السابقة، ويجب أن يُنظر إليه من خلال قطيعة مع الفهم التقليدي الجامد له. كان التراث بالنسبة للجابري جوهرًا أساسيًا لا يمكن القطع معه قطعًا يلغيه ويحذفه من الوجود، فهو كائن حيّ يؤثر في الحاضر والمستقبل. بمعنى آخر، كان الجابري يريد أن يشق طريقًا ثالثة غير الطريقين السائدين في التعامل مع التراث العربي الإسلامي، أي طريقًا يختلف عن نهج من يدنّسون التراث وعن نهج من يقدّسونه بالوقت عينه. لذلك كان يقول: “نريد أن نتحوّل من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث”، أي ألا نكون وحدة متكاملة مندمجة به كصفة تتبع الموصوف. فكان يرى أنّ التراث قد تشكّل ضمن سياق تاريخي معيّن، ومن هنا لا بدّ من قراءته ضمن سياق تشكّله هذا وبالاستناد إلى المرجعية المعرفية التي كانت سائدة في كل مرحلة من مراحل تشكّله هذا. كذلك رأي الجابري أنّ التراث كان على الدوام أحد الفواعل الرئيسة في حاضرنا، وبالتالي في مستقبلنا، ومن هنا وجب دراسته وأخذ ما يناسبنا منه وطرح ما لم يعد متوافقًا ومنظومتنا المعرفية الراهنة التي راكمت على منجزات التقدّم البشري الكبيرة. بهذا المعنى كان الجابري يعمل على تجاوز مضمون التراث، إلى البحث في بنية الأداة التي أنتجته، أي العقل العربي، وكان مشروعه الذي أراده إعادة بناء العقل العربي، أي بناء منظومة العقل من جديد.
وضع الجابري منهجه في فرز العقل العربي إلى مستويات ثلاثة من داخل البنية المعرفية العربية، فقسم العقل إلى بيان وعرفان وبرهان، وسار مع كل عقل في طريقه ليوضّح لنا أين كان حاضرا وكيف كان فاعلًا في زمنه وفي زمننا الراهن أيضًا، فجات تلك العقول كما يلي:
البيان: أي الإيضاح أو التفسير الذي يستند إلى النصّ بشكل رئيس، بل يكاد يكون بشكل مطلق، وهو العقل الذي يستند إلى القياس في مقاربة المعرفة. هو معرفة قياسية قوامها النص أو الرؤية الأصولية، وقد كان السلطة المرجعية التي أثّرت في الفكر العربي، وهذا الفكر حسب الجابري هو فكرٌ نصّيٌ بياني.
العرفان: وهو العقل الاستكشافي الذي لا يكتفي بالنص مرجعًا له فقط، بل يأخذ بجوانب أخرى تشمل الحكمة والحلم والخرافة والخيال والسحر والمجاز وغيرها.
البرهان: وهو إعمال النظر العقلي والفكري والتجربة والإثبات والفحص المستمر، والبرهان هو العقل الذي سيُبنى به المستقبل وفق هذا التقسيم الثلاثي.
ولأنّ الجابري كان يعتبر أنّ “البرهان” لم يَسُدْ في الثقافة العربية الإسلامية، بل كانت الغلبة فيها للعقل البياني وللعقل العرفاني، فإنّ حالنا بقي على ما هو عليه من حيث “توقّف الزمن العربي” وفق تعبيره، والسبب في ذلك كلّه كما أسلفنا هو استناد الفكر إلى القياس. جعلنا هذا الاعتماد على القياس نقارن حاضرنا بماضينا فنقيسه عليه، وأودى بنا إلى اعتبار الزمن الماضي هو الزمن الصحيح، فهو زمن الانتصارات والفتوحات والقوة، وبالتالي لا بدّ لنا من العودة إليه ليكون لنا حضور بين الأمم.
وضع الجابري منهجه في فرز العقل العربي إلى مستويات ثلاثة من داخل البنية المعرفية العربية، فقسم العقل إلى بيان وعرفان وبرهان، وسار مع كل عقل في طريقه
هذا العقل الذي أغلق التاريخ عند نقطة زمنية محددة لم يكتف بقياس الحاضر عليها فقط، بل وتعدّى مرضه لأن يقيس المستقبل بالمقارنة بها أيضًا. نحن بهذا المفهوم الأمّة الوحيدة ربّما التي تسير إلى الأمام ونظرها إلى الخلف، تتعلّق بكل ما ورد في التراث وكأنّه مقدّسٌ أُنزل من السماء ليبقى أبد الدهر، وليس على أنّه سياقٌ تاريخيٌ من المعرفة المحكومة بظروفها وبقوانينها. من هنا كان استلهام الجابري ابن رشد -الذي يتجسّد في فكره عقل البرهان- ليس استلهامًا معرفيًا، لأنّ المعرفة تتطوّر بالتجربة والتراكم والنقد، إنّما هو استلهام أخلاقي يستند إلى الفضيلة العلمية التي تجعل المفكّر قادرًا على تجاوز ذاته وفكره، ومن الفكر كائنًا حيًا لا حجرًا أصم.
عندما ناقش الجابري مفهوم السلطة وأسس الحكم الإسلامي ذهب إلى نقد العقل السياسي العربي، وبيّن أنّ هذا العقل متصلٌ اتصالًا وثيقًا بالمسألة الدينية، فهو ينبت في حاضنة الدين ويتغذى على نُسغه ويعيش في فضائه، وقسّم الجابري الأسس التي يقوم عليها العقل السياسي العربي إلى ثلاثة أسس، هي:
القبيلة: وهي الوحدة العقلية الاجتماعية الناتجة عن غياب مفهوم الهوية الوطنية، وفي الوقت ذاته هي سبب لاستدامة هذا الغياب. الهوية الوطنية في عالمنا العربي ضعيفة لمصلحة القبيلة نظرًا لغياب مفهوم المواطنة التي تقوم على الفرديّة في العصر الراهن.
الغنيمة: وهي كلّ مالٍ يُحصل عليه بغير طرق الإنتاج الحقيقي مثل الزراعة أو الصناعة أو التجارة، بل طريق الوصول إليه يكون بالعنف أو بالغلبة والقهر. المثال على ذلك في عصرنا الراهن هو الريوع المتحصلة من النفط والثروات الباطنية التي تُنتج الاقتصاد الريعي كما هو حال أغلب دولنا العربية، وسابقًا كانت غنائم الغزوات والخراج والجزية موضوع الغنيمة.
العقيدة: وهي الأيديولوجيا الدينية التي رافقت تشكيل الدولة آنذاك، والتي كان لها دور أساسي في بناء الثقافة العربية الإسلامية. هذه العقيدة – كغيرها من العقائد- كانت من القوّة والنفوذ بحيث أغلقت الفضاء الثقافي وأنتجت رؤية أحاديّة لم تمكّن من وجود آراء أخرى مختلفة، فكانت سببًا في ترسيخ التراث بصيغته المحكي عنها.
يُنقل عن الجابري أنّه قد قال عند انتهائه من كتابه “مدخل إلى القرآن الكريم” بأجزائه المتعددة: “الآن يمكن لعزرائيل أن يزورنا”، وكان في آخر العمر بحيث لم يعد يخشى الاشتباك مع مُقدّسي التراث. كان الجابري قد طبّق عمليًا منهجه النظري المحكي عنه أعلاه في البحث من خلال هذا الكتاب، فطوال سنوات اشتغاله في الثقافة العربية قبل ذلك لم يكن قد تطرّق للحقول التي يمكن أن يأتي منها الهجوم، أي لحقل تفكيك العقل الديني إن صح التعبير، أو الدخول مع أصحاب النظرة التقديسية للتراث بصدام مباشر. اشتغل الجابري قبل ذلك على تفكيك بنية العقل العربي عامّة من خلال مشروعه، ثم تطرّق لبنية العقل السياسي العربي، لكنّه بقي في إطار النظرية التي ابتدع لها الأدوات والمفاهيم السابقة التي كانت وقتها ثورة في التفكير.
في كتابه مدخل إلى القرآن الكريم” لم يرفع الجابري القداسة عن الدين ولا عن القرآن، لكنّه نقد التديّن النمطي السياسي، أو بعبارة أخرى نقد الذين ينظرون إلى التاريخ بطريقة مقدّسة ليمارسوا السلطة من خلال ذلك. كان له اجتهادات مختلفة في قضايا المرأة والميراث وفكرته عن ترتيب الآيات تاريخيًا وفق تاريخ النزول وأمّية الرسول محمّد (ﷺ)، وحول هذه النقطة الأخيرة اعتبر أنّ الأميين هم كل من لم ينزل عليهم كتاب من قبل، وبالتالي فإنّ ذلك جعل البيئة الثقافية العربية أكثر استعدادًا لتقبّل الدين الجديد، بل كانت في حالة تعطّش له. هذا الأمرُ جرّ على الجابري غضب الغاضبين لأنّه يزعزع بنظرهم مسألة إعجاز القرآن، التي كان بالنسبة لهم إعجازًا بيانيًا بتعابير الجابري وليس إعجازًا برهانيًا.
هكذا كان الجابري مفكرًا من خارج التيّار، ورغم كلّ ما وجّه له من نقد، وخاصّة من قبل المفكر السوري جورج طرابيشي، إلاّ أنّه يبقى أحد المفكرين العرب الذين بدؤوا خطوة في مشوار الألف ميل نحو بناء عقل عربي جديد، وما أحوجنا اليوم لاستلهام فكر الجابري كما استلهم هو فكر ابن رشد، ليس بالضرورة بمضمونه، بل بأدواته وجرأته وأخلاقياته، علّنا نسهم بشيء في تغيير عقلنا العربي.
المصدر: تلفزيون سوريا