
أخيراً، بدأت المواجهة الإيرانية – الصهيو- أميركية، ما يعني الانتقال إلى المرحلة النهائية (أو ما يعتقد أنّها كذلك) من إعادة ترتيب المنطقة العربية/ الشرق الأوسط وفق المخططات الصهيو- أميركية. وبالتالي، اقتراب معرفة الصورة التي ستنتهي إليها المنطقة، بين خضوعٍ كاملٍ للسيطرة الصهيونية، ومن خلفها الأميركية، أو العودة (بدرجةٍ ما) إلى مرحلة تنافسٍ شديدٍ بين فواعل إقليميةٍ عديدةٍ للسيطرة على المنطقة، انحصرت عقوداً بين الاحتلال الصهيوني وتركيا وإيران، وضمت إلى جانبها مصر والسعودية والعراق وليبيا، وبدرجة ما سورية.
بدايةً، لا يمكن تجاهل احتمال خطأ القراءة الصهيو- أميركية بأن ضرب إيران والمواجهة معها (أو إخضاعها عبر اتّفاقٍ نوويٍ مجحفٍ وفق الرؤية الصهيو- أميركية) هما المرحلة النهائية في إعادة صوغ المنطقة، كما أنّهما الركيزة الأهم لإعادة فرض الهيمنة الأميركية عالمياً بعدّها قطباً أوحدَ مهيمناً على العالم كلّه، إلى جانب فرض الاحتلال الصهيوني لاعباً عالمياً حاسماً ومؤثّراً، أي انتقاله من أن يكون قاعدةً عسكرية إمبريالية/ أميركية، إلى أن يصبح لاعباً دولياً كامل الأركان، يتجاوز تأثيره وتحكّمه حدود فضائه الجيوسياسي التقليدي. هنا لا بدّ من وضع بعض الحسابات غير المرجّحة في الحسبان، من قبيل احتمال صمود إيران، وتوالي المواقف الدولية الداعمة لها (الموقف الباكستاني)، بل احتمال التحاق الاتّحاد الأوروبي بالدول الساعية إلى تحجيم الدور الصهيوني، ومعارضة المخطّطات الأميركية، لحسابات مصلحية بحتة، لا تمتّ لمصالح شعوب المنطقة بأيّ صلةٍ طبعاً. كما لا يمكن استبعاد احتمال توسّع المواجهات والاشتباكات، وانضمام أطراف إقليمية ودولية أخرى، تخشى نجاح المخططات الصهيو- أميركية إقليمياً ودولياً.
لا يمكن تجاهل أن ضرب إيران والمواجهة معها (أو إخضاعها) هما المرحلة النهائية في إعادة صوغ المنطقة
في سياقٍ موازٍ، لا يصح اعتبار نتائج المواجهة محسومةً مسبقاً لصالح الاحتلال الصهيوني وحليفه الأميركي، إذ شهدنا في الأشهر الماضية (منذ عملية طوفان الأقصى) سلسلةً من الأحداث المفاجئة، بدايةً من “الطوفان” نفسها، وصولاً إلى اغتيال حسن نصر الله، ومجمل قيادات حزب الله، مروراً بقدرة الحوثيين على الصمود، والاستمرار في عمليات الإسناد، مقابل عجز حزب الله عن ذلك، كما شهدنا نجاحاً صهيونياً في اختراق حزب الله وإيران استخباراتياً، مقابل العجز عن اختراق جماعة الحوثي وفصائل المقاومة الفلسطينية (مع مؤشّرات على تزايد نجاحاته في اختراقهم في الأسابيع الماضية)، كما أن هناك تغييراتٍ في بنية الاحتلال ذاته، تتمثّل في عاملين اثنين. الأول، نجاحه في تهيئة حاضنته الاجتماعية وبنيته الاقتصادية والسياسية واللوجستية لخوض معارك طويلة زمنياً. والثاني، قدرته على خوض معارك مترامية الأطراف استخباراتياً (الأصعب برأي كاتب المقالة) وعسكرياً وسياسياً.
إضافةً إلى ما سبق، نجد احتمالَين آخرين، إما انتصار النظام الإيراني، ليس عبر كسر المخطّطات الصهيو- أميركية فقط، بل عبر تحجيم قدرات الاحتلال الصهيوني إقليمياً، في مقابل تعاظم القدرات الإيرانية. هذا الاحتمال برأي كاتب المقالة ضعيف (لن نخوض في ذكر أسباب ذلك)، حتّى لو دُعِم النظام الإيراني من دول في الإقليم والعالم وازنة وقوية. أو قد تفشل المخططات الصهيو- أميركية من دون حسمٍ إيرانيٍ مطلق، وهو احتمالٌ مرجّحٌ، أو لا يقلّ ترجيحا عن نجاح المخطط الصهيو- أميركي كثيراً، إذ تملك إيران عوامل قوّة إقليمية لا يمكن الاستهانة بتأثيرها رغم فرق الإمكانات الهائل. لكن بعيداً عن احتمالات الربح والخسارة، صهيونياً أميركياً من جهة، وإيرانياً من جهةٍ أخرى، نلحظ أن دول المنطقة العربية وشعوبها خارج هذه المعادلة كلّياً، باستثناء شعبي فلسطين واليمن، لأنهما جزءٌ من المعركة أصلاً. المشكلة الأولى هنا أن دول المنطقة وشعوبها ستتحمل كلّ تبعات ونتائج هذه المعارك، وعلى الصعد كلّها، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً. كما تتمثّل المشكلة الثانية في ادّعاء حيادٍ كاذبٍ وخادعٍ عملياً، إذ لا يمكن لشعبٍ ما أن يقف موقف الحياد في مصيره هو، أو بالأصح لا يجوز، فالحياد في العرف السياسي هو دعمٌ للطرف الأقوى، تماماً كما كان حياد الطبقات الشعبية في خضم الثورات الشعبية العربية دعماً للنظم، ولنا بالثورة السورية مثالاً، بمعنى أن الحياد اليوم هو دعمٌ للمخطط الصهيو- أميركي، وعليه فهو فعلٌ بحدّ ذاته.
هنا لا بدّ من التمييز بين استمرار النظام الإيراني وإفشال المخطط الصهيو- أميركي، إذ لا تناقض بين المقولتَين، بمعنى أنه من الممكن استمرار النظام ونجاح المخطط الصهيو- أميركي، بل يمكن أن تتحوّل إيران من أدوات الاحتلال الصهيوني في المنطقة. بيد أن احتمال فشل المخطط الصهيو- أميركي في ظلّ سقوط النظام الإيراني، هو احتمالٌ شبه مستحيل في ظلّ الوضع الإقليمي الراهن، نظراً إلى خضوع مجمل دول الإقليم للإرادة الصهيو- أميركية، أو للدقّة، نظراً لغياب الرغبة في التصدّي للمشروع الصهيو- أميركي.
معركة شعوب المنطقة اليوم تكمن في التصدّي للمشروع الصهيو- أميركي، وإفشاله مهما كان الثمن
هنا لا بدّ من التوضيح أن إفشال المشروع الصهيو- أميركي واستمرار سياسات النظام الإيراني غير الإجرامية، من قبيل دعم النظام الإيراني لفصائل المقاومة الفلسطينية، وتمسّكه بحقّه المشروع في برنامج نووي سلمي (بل ورهن وقف البرنامج غير السلمي بتعميم هذه القاعدة في الإقليم كلّه، وفي مقدّمته برنامج الاحتلال الصهيوني النووي)، أي سياسات لا تقود إلى توغل إيراني في الإقليم، فما قبل “7 أكتوبر” (2023) ليس كما بعده، وإيران لا تملك دعماً دولياً لفرض هيمنتها على مجمل الإقليم، كما في حالة الاحتلال الصهيوني، بل لا تملك إيران قدرات لفرض هيمنتها قسراً على إقليم واسع وشاسع وحيوي كالإقليم العربي، إذ يعود جزء كبير من نجاح الاحتلال الصهيوني (وأميركا) في فرض الهيمنة إقليمياً إلى رغبة معظم النظام الرسمي العربي في كسب ودّ أميركا، وهي الحالة المفقودة في الحالة الإيرانية، إذ لا تجد نظم المنطقة أيَّ مصلحة لها في الخضوع لهيمنةٍ إيرانية. وعليه، فإن مقاومتها أمرٌ شبه مضمونٌ، خصوصاً بعد تحررها نسبياً (إن تم ذلك) من الهيمنة المطلقة الصهيو- أميركية.
من هنا يجد الكاتب أن على شعوب المنطقة ودولها خوض معركتها الذاتية في مواجهة المشروع والمخططات الصهيو- أميركية، فهي المستهدفة بالدرجة الأولى من كلّ ما يحدث، منذ أكثر من عامَين على الأقلّ؛ بل منذ عقودٍ أيضاً، فالخطر اليوم أكبر من كلّ ما واجهته المنطقة سابقاً، ويُخشى أن تمتدّ تداعياته، في حال نجاح الاحتلال الصهيوني وداعمه الأميركي، إلى عقودٍ مديدةٍ مقبلة أيضاً. لذا، ومرّةً أخرى، يجب أن تعي شعوب المنطقة أنّ معركتها الفاصلة اليوم تكمن في التصدّي للمشروع الصهيو- أميركي أولاً وثانياً وثالثاً، بل وإفشاله مهما كان الثمن، وإلّا فكما يقول المثل الشعبي “على نفسها جنت براقش”.
المصدر: العربي الجديد