
جولة المفاوضات الروسية الأوكرانية الثانية في اسطنبول، عُقدت تحت وقع عملية “شبكة العنكبوت” الأوكرانية ضد قواعد الطيران الإستراتيجي الروسي في مناطق مختلفة من الأراضي الروسية، بما فيها أقصى شرق سيبيريا. ولم تدم جلسة المفاوضات أكثر من ساعة، أي أقل من الوقت الذي شغله اتصال بوتين الهاتفي بالرئيس ترامب، ليبلغه أن روسيا لا يسعها أن لا ترد على الضربة. بالطبع، لم يتصل بوتين بترامب ليحصل على موافقته على الرد الروسي، وهذا غير مستبعد، بل أبلغه بأن روسيا “مضطرة” للرد على أوكرانيا.
ثمة من يشبه المفاوضات الروسية الأوكرانية بالمسرحية التي يشاهدها متفرج واحد. فلا يستطيع المتفرج، ترامب، أن يملي على اللاعبين حركتهما، لكنه يشترط أن تبقى ضمن سياق المفاوضات. لم يذكر أي مصدر من بادر إلى الاتصال الهاتفي بعد عملية “شبكة العنكبوت”. لكن نص الحديث الذي نشره ترامب، يوحي بأن بوتين بادر إلى الاتصال بترامب ليبلغله بما تنويه روسيا، وليحمل أوكرانيا المسؤولية عن التصعيد المتوقع في الوضع.
في الجولة الأولى من المفاوضات، اتفق الوفدان على أن يقدم كل منهما في الجولة الثانية مذكرة مكتوبة عن رؤية كل طرف لسيناريو وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب. وبالفعل نشرت أوكرانيا قبل جلسة المفاوضات نص مذكرتها للوفد الروسي، في حين امتنعت عن روسيا عن نشر مذكرتها، معتبرة أن “من غير اللائق” نشر المذكرة في الإعلام. ورأى محللون في حرص روسيا على عدم إطلاع أوكرانيا قبل سواها على شروطها لوقف الحرب، إشارة إضافية إلى أن روسيا لا تفاوض أوكرانيا في اسطنبول، بل تفاوض الغرب عبر أوكرانيا.
علق زيلينسكي على المذكرة الروسية بالقول إن أوكرانيا وشركاءها لا يأخذون على محمل الجد “ما يسمى” بالمذكرة الروسية. وحسب موقع الخدمة الروسية في “الحرة” الأميركية في 4 الجاري، اقترح زيلينسكي مجدداً وقف إطلاق النار بلا شروط. وأضاف بأن وقف إطلاق النار قد يتبعه لقاء بين زعيمي البلدين، ربما بوساطة الولايات المتحدة. ولماذا وقف إطلاق النار قبل لقاء الزعيمين، قال زيلينسكي إن وقف إطلاق النار ينتهي في اللحظة التي يظهر اللقاء أن التفاهم متعذر، ولا تتوفر الرغبة في تخفيض التصعيد. وإذا أظهر اللقاء عكس ذلك، يمكن حينها تمديد وقف إطلاق النار.
ربط زيلينسكي بين عملية “شبكة العنكبوت” ورفض روسيا لوقف إطلاق النار، وقال للموقع الأميركي إنه كان بإمكان روسيا تفادي قصف طيرانها الاستراتيجي في الأول من الجاري، لو كانت وافقت على وقف إطلاق النار. وأضاف زيلينسكي مهدداً، أن مواصلة لقاءات اسطنبول على مستوى “لايتخذ قراراً” أصبح بلا معنى.
نقل الموقع عن شبكة ABC News قولها إن مسؤولين أميركيين أبلغوها أن واشنطن تشعر بخيبة أمل، ولكنها ليست متفاجئة بمحتوى المذكرة الروسية. ولم يتخذ ترامب بعد قراراً ما إن كانت وشنطن ستشدد العقوبات على موسكو في محاولة لإجبارها على السلام.
“النصر الرمزي” على روسيا الذي حققته أوكرانيا بعملية “شبكة العنكبوت”، جعل زيلينسكي يرفع لهجة خطابه، ويعلن عن معاقبة روسيا على رفضها الهدنة، ويهدد ترامب بالخروج من المفاوضات. ويشهد المجتمع الأوكراني نهوضاً كبيراً في المزاج العام، وتنتشر على شبكات التواصل الاجتماعي الناطقة بالأوكرانية والروسية موجة عارمة من الابتهاج والاعتزاز بهذا النصر الرمزي على روسيا. وتسود قناعة بين الناشطين على الشبكات هذه، بأن عملية “شبكة العنكبوت” شكلت صفعة شديدة، ليس لبوتين وحده، بل ولترمب أيضاً. فقد تجرأت القيادة الأوكرانية وقررت عدم إبلاغ الإدارة الأميركية مسبقاً بالعملية، وتجاهلت مخاطر إثارة غضب ترامب. كما أنها ذهبت أبعد من ذلك بعمليتها الناجحة، وكذّبت الرأي الذي يردده نرامب باستمرار، بأن أوكرانيا لا تملك أوراقاً رابحة ضد روسيا، ومن الأفضل لها قبول شروط روسيا المجحفة، كي لا تصطدم لاحقاً بشوط أشد قسوة وإجحافاً.
إذا كان ترامب لا يزال مصراً على تنفيذ وعده بإنهاء حرب روسيا على أوكرانيا، فمن المستبعد أن يتغاضى عن “الصفعة” التي وجهتها له أوكرانيا. فقد نقل موقع Meduza الروسي في 6 الجاري عن مجلة The Atlantic قولها إن دوائر البيت الأبيض بدأت تناقش التخلي عن دعم أوكرانيا.
لكن رئيس مركز الأبحاث السياسية الأوكراني vladimir fesenko صرح لـ”المدن” أن المبعوث الأميركي الخاص إلى اوكرانيا، كيت كولليغ، يتخذ موقفاً مختلفاً. ورأى أن مستشاري ترامب المتعددين يهمسون في أذنه مختلف الآراء، ولذلك ترامب في حالة من الذهول. ولكن حين يكون ترامب في حالة غضب، “نسمع ونرى ذلك منه شخصياً”، وليس من مصادر مجهولة في إعلام معادٍ.
أما رد فعل بوتين على الصفعة المدوية التي تلقاها من أوكرانيا، فلم يتأخر، سيما أنه وعد ترامب بمعاقبة أوكرانيا. فقد نقل الموقع الروسي المذكور عن الجيش الأوكراني، أن الجيش الروسي أطلق ليل 6 الجاري على أوكرانيا أكثر من 400 درون. وصرحت وزارة الدفاع الروسية بأن الهجوم هو رد على “الهجمات الإرهابية للنظام الأوكراني”.
في حديث خاص لـ”المدن”، اعتبر الباحث البريطاني في المجلس الأطلسي Peter Dickinson أن الهجوم الأوكراني الأخير بالطائرات المسيّرة على قواعد جوية روسية يمثل تحولًا نوعيًا في الحرب، ليس فقط على مستوى الأثر العسكري، بل على صعيد المعادلة الاستراتيجية برمّتها داخل العمق الروسي.
ورأى الباحث أن الضربة التي استهدفت القواعد الجوية الروسية أدّت إلى تدمير عدد كبير من القاذفات التي تُستخدم عادة لإطلاق صواريخ كروز ضد المدن الأوكرانية. وبينما تتراوح التقديرات بين تدمير 10 و30 طائرة، فإن المؤكد هو أن الضربة أضعفت مؤقتًا قدرات سلاح الجو الروسي، حتى وإن بقيت موسكو قادرة على تنفيذ هجمات. إلا أن الأهمية الحقيقية للهجوم تكمن، وفق الخبير، في كشف هشاشة المنظومة الدفاعية الروسية، حتى في عمق الأراضي الممتدة إلى سيبيريا.
وقال Dickinson أن ما جرى يُرغم روسيا على إعادة حساباتها الدفاعية، إذ لم تعد أي قاعدة عسكرية روسية بمنأى عن التهديد. هذا الواقع الجديد سيُجبر موسكو على إعادة نشر مواردها، لحماية منشآت لم تكن يومًا مهددة، ما يضعف كفاءتها في الجبهات المباشرة.
وفيما يتعلّق بجولة المحادثات الثانية التي عُقدت في اسطنبول، قال الباحث إن الطروحات الروسية لا ترقى إلى مستوى مبادرة سلام، بل تشكّل محاولة لفرض استسلام فعلي على كييف. فـ”الكرملين يشترط تقليص الجيش الأوكراني، تسليم أراضٍ لا تخضع حاليًا لسيطرته، وقبول العزلة الدولية، إلى جانب فرض الهيمنة الثقافية والتاريخية الروسية”، وفق قوله.
ورأى الباحث أن تنفيذ هذا الهجوم الجوي من دون تنسيق مباشر مع واشنطن يُعبّر عن تحوّل في العلاقة بين أوكرانيا والولايات المتحدة. فبينما كانت واشنطن تُقيّد سابقًا هذا النوع من العمليات، فإن تراجع الدعم السياسي والعسكري الأميركي منح كييف هامشًا أكبر لاتخاذ قراراتها المستقلة ميدانيًا.
وعن وصف ترامب للحرب الروسية الأوكرانية بأنها “خلاف أطفال”، قال الباحث إنه “تصريح غير مسؤول وسخيف”، لا يعكس تعقيدات الصراع ولا حقيقة الموقف الروسي. وأضاف: “ترامب لا يريد مواجهة بوتين، وربما يُعجب به أو يخشاه، لكن من الواضح أن موسكو لا تُصغي له، ولا تبحث عن تسوية، بل تسعى إلى إنهاء استقلال أوكرانيا بالكامل”.
ويرى Dickinson أن أوكرانيا تُظهر مزيدًا من الجرأة في خياراتها الهجومية، وروسيا تمضي قدمًا في مشروعها التوسّعي. وفي ظل انسداد أفق التسوية، يبدو أن الحرب تتجه نحو مزيد من التصعيد، لا التهدئة.
المصدر: المدن