
أُعلن من منزل الراحل سلامة كيلة في دمشق، في 17 مايو/ أيار الجاري، تأسيس منتدى سلامة كيلة الثقافي (قيد الترخيص). إذ شارك في الاجتماع التأسيسي مقيمون في سورية وآخرون في خارجها (عبر تقنية الزوم)، انتخبوا مجلساً لإدارة المنتدى.
بدأ الاجتماع التأسيسي بكلمة ناهد بدوية، قالت فيها إنها، بعد سقوط نظام الأسد، “فكّرت فوراً بإعادة النشاط إلى هذا المنزل الذي لم يكن مجرّد بيت عائلي، بل كان مقرّاً للنشاطات… اجتماعات الحوار بين القوى اليسارية السورية المعارضة في أواخر الثمانينيات، اجتماعات مجموعة البديل لمناهضة العولمة 2004، ندوات منتدى اليسار، اجتماعات متنوّعة من أجل الديمقراطية مع المجموعات والمنتديات المشاركة في ربيع دمشق ومع رياض الترك أثناء نقاش الموضوعات ومناقشة إعلان دمشق… إلخ، اجتماع تأسيسي لنساء من أجل الديمقراطية 2006، اجتماعات ائتلاف اليسار في الثورة السورية، اجتماعات نساء من أجل الانتفاضة السورية، وشهد اعتقال سلامة منه مرّتين، واعتقالي مرّتين”. وختمت “هُويَّة المنتدى ستكون محصلة ذواتنا المتنوعة أعضاءً وفاعلين فيه. فنحن يساريون وديمقراطيون وناشطون على أرضية ثورة الحرية، التي سنبقى ندافع عن قيمها في الحرية والعدالة والمساواة، وسوف يكون تركيزنا على العدالة الاجتماعية، هو ما سوف يميز هُويَّة منتدانا هذا”.
إذاً، اعتقل سلامة كيلة في سورية مرّتَين. الأولى بسبب نشاطه السياسي المعارض لنظام الأسد الأب، ودفع ثمن ذلك ثماني سنوات (1992-2000)، قضاها في سجنَي عدرا وتدمر. واعتقاله الثاني في 2012، الذي أُبعد في أثره إلى الأردن، فقد جاء على خلفية انخراطه في الثورة ضدّ نظام الأسد الابن. بينما كان بعض اليساريين يُعلن صراحةً عدم تأييدهم الثورة السورية التي انطلقت في مارس/ آذار 2011، ويوجّه سهامه ضدّها، بل وينفي عنها أصلاً أنها ثورة، تحت ذرائع مختلفة (هيمنة القوى الإسلامية وخطابها، وخروج التظاهرات من المساجد،… إلخ). كان سلامة من فرسان الثورة، ومنظّراً لحتمية انتصارها. وهذا لا يعني أنه لم يكن يرى الأخطاء والسلبيات، أو أنه كان راضياً عن أداء المعارضة، أو متجاهلاً هيمنة قوى الإسلام السياسي، ولا سيّما السلفية التكفيرية منها. على العكس، اتخذ موقفاً نقدياً حادّاً من المعارضة. ومنذ اللحظات الأولى لبروز ظاهرة “الأسلمة”، أشهر مبضع نقده لها، منبّهاً إلى خطورتها، بل إنه ربط انتصار الثورة بتهميش هذه القوى وإضعافها، لكن ليس من خلال النقد فحسب، بل عبر الانخراط الفاعل في الثورة والعمل في الأرض.
كانت “راجع” آخر كلمات سلامة كيلة التي ردّدها بثقة وهو يغادر سورية منفياً
بعد خروجه من سورية، أمضى سلامة كيلة حياته متنقلاً بين القاهرة وعمّان. ورغم مرضه الشديد والمُنهِك، إلا أن عزيمته لم تفتر، فواصل نشاطه السياسي والتنظيمي والفكري، فضلاً عن كتاباته الصحافية، لا سيّما في صحيفة العربي الجديد، التي خصّته بزاوية أسبوعية، أطلّ من خلالها على القرّاء بمواضيع متنوعة وثرية، فلسطينية وعربية وعالمية، سياسية وفكرية، عكست انحيازه إلى قضايا الشعوب، وحضرت فيها سورية وثورتها، وتفاؤل سلامة المعهود. في 12 يوليو/ تموز 2018، وتحت عنوان “عن سحق الثورة”، كتب سلامة: “لكن هذه ليست النهاية، إنها نهاية مرحلة. لقد سحقت الثورة ولم ينته الصراع، وليس من أملٍ بأن ينتهي ما دام الشعب يريد إسقاط النظام… الثورات تُسحق، لكنّها لا تموت. ستنهض الثورة من جديد، لا شكّ في ذلك، كما الثورات في البلاد العربية، في عالم عاصفٍ ومحمّلٍ بمخاض كبير”. استمرّ سلامة في كتابة زاويته حتى آخر نَفس. ففي تاريخ 27 سبتمبر/ أيلول 2018، قبل وفاته بأيّام، نُشِرت آخر مقالاته “في الموقف ضدّ الاستبداد”.
سقط نظام بشّار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، وتحقّقت نبوءة سلامة كيلة، الذي لو كان حيّاً، لشدّ رحاله إلى دمشق في اليوم التالي للسقوط. ولنا أن نتخيّل كيف كان سيلاحق السلطة الجديدة “على الدعسة”، مشرّحاً ومنتقداً ومستشرفاً مواقفها وسياساتها، داعياً إلى ضرورة الإسراع في العمل والتنظيم بين الناس، وفي النقابات…إلخ. لو كان سلامة بيننا، لتحوّل بيته خلية نحل تعمل ليل نهار من أجل استكمال أهداف الثورة في الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والمساواة.
كانت “راجع” آخر كلمات سلامة كيلة التي ردّدها بثقة وهو يغادر منفياً إلى الأردن في 2012. لم يتمكّن من العودة إلى سورية، إذ وافته المنية في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، ووري جثمانه في الثرى في عمّان، بعد رفض إسرائيل دفنه في مسقط رأسه بيرزيت بفلسطين. لكن محبّي سلامة، عرباً وكرداً، سوريين وفلسطينيين، ومن خلال المنتدى الذي سمّي باسمه، قد أعادوه روحاً وفكراً وإرثاً، إلى البلد التي أحبّ، وإلى داره في دمشق.
المصدر: العربي الجديد