كنوز سوريا.. من مملكة إيبلا حتى نزار قباني

مصطفى علوش

أتيح لي يومًا أن أزور موقع مملكة إيبلا الأثري في محافظة إدلب، التي اكتشفها عالم الآثار الإيطالي باولو ماتييه، وراقبتُ تلك الجهود الجبّارة التي بذلتها البعثة الأثرية لتعريف العالم بمملكة إيبلا.

قلتُ في ذلك اليوم من عام 2002، كما أذكر، إن ما تملكه سوريا من آثار كافٍ ليجعلها من أغنى بلاد العالم وأرقاها حضاريًّا، ويمكن أن تحصل ميزانية البلد على مبالغ ضخمة من العملة الصعبة، في حال توفرت البنية التحتية السياحية. ولكن كلّ ذلك مرهون ببناء دولة حقيقية.

ليست الآثار وحدها ما تملكه سوريا، إنما يملك أبناؤها طاقاتٍ جبارةً، ومواهبَ، وعقولًا مبدعة، وقبل كلّ شيء إراداتٌ جمعية وفردية ترغب بالنهوض مجددًا لتكون سوريا جزءًا من العالم.

لماذا لا يتم استملاك بيت نزار قباني لصالح وزارة الثقافة؟

أنجبت سوريا سعد الله ونوس، ومحمد عمران، وأبو خليل القباني، ونزار قباني، وصباح قباني، كما أنجبت محمد الماغوط، وعبد السلام العجيلي، ومحمد عبد الكريم عازف البزق، ومعهم مئات الأسماء التي رحلت عن دنيانا. لكن كلّ أثر فكري وثقافي وفني من آثار هؤلاء يُعتبر كنزًا لسوريا، يمكن أن يدعم ميزانية الدولة بالعملة الصعبة. فبيت نزار قباني في دمشق، مثلًا، لو قُيّض للدولة أن تستملكه لمصلحة وزارة الثقافة، لكان بالإمكان أن يكون قبلةً لعشّاق الشعر في العالم العربي وغيره.

يمكن لسوريا أن تحضر في العالم كقوة فنية وفكرية وثقافية، عبر هذه الطاقات التي تم تهجيرها إلى العديد من بلدان أوروبا.

العروض المسرحية السورية المميزة، الأخوان ملص

يومًا ما من عام 2005، كنتُ في عداد الوفد الصحفي الذي زار تونس لحضور مهرجان قرطاج. ويومها شاركت سوريا من خلال عدة نشاطات مسرحية، ومنها العرض المسرحي “فوضى”، وأذكر أن العرض قُدِّم على خشبة المسرح البلدي في تونس العاصمة، وحين انتهاء العرض صفق الجمهور واقفًا لمدة تجاوزت عشر دقائق.

يومها كان المسرح السوري كنزنا المتنقل.

هذه الأيام، وفي دمشق، يعرض الأخوان ملص عرضهما المسرحي ضمن تجربة “مسرح الغرفة”، وهو بعنوان: “كلّ عارٍ وأنتم بخير”. وأذكر أني تابعت عام 2011 عرضهما المسرحي في مسرح الغرفة “الثورة الآن تُؤجَّل إلى الغد”، هما ومعهم المئات من خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية وقسم النقد، هم كنز هذا البلد.

يمكن لسوريا أن تحضر في العالم كقوة فنية وفكرية وثقافية، عبر هذه الطاقات التي تم تهجيرها إلى العديد من بلدان أوروبا.

إذًا، الثقافة السورية ومبدعوها وحاملوها هي الجسر الحضاري الذي يمكن أن نعبر عبره إلى العالم. أذكر أن الراحل محمد الماغوط قد أنفق الكثير من الجهد والمال لبناء بيتٍ له في مدينة سلمية، مسقط رأسه، لكن لم يُتَح له أن يعيش فيه، وزاره مرة واحدة بعد موته، حين عبرنا به ميتًا في تابوت، كزائر. هذا البيت يمكن أن يكون متحفًا حقيقيًا، ويمكن أن تزوره الناس من كلّ بقاع الأرض.

مبدعات سوريا الرائدات في الفكر والثقافة، من إلفة الإدلبي حتى كوليت خوري، مرورًا بالعديد من الأصوات النسائية، هنّ كنزٌ سوريٌّ ثقافيٌّ.

علينا البدء بتشكيل الدولة السورية الحقيقية. ونحن هنا لا نخترع العجلة من جديد، إنما علينا أن ننظر حولنا إلى تجارب ناجحة، نُقلّدها ونطوّرها، ونجعل كرامة الإنسان وحريته أساس بناء هذه الدولة.

الدراما السورية والفن التشكيلي السوري.. رسالتنا للعالم

الدراما السورية، وما قدّمته خلال عقود من أعمال يعرفها ملايين العرب، وأسماء سورية إبداعية مهمة نقلت للعالم اسم سوريا: كُتّاب ومؤلفون، ممثلون ومخرجون وفنيون، هؤلاء كنوز ثقافية متنقلة تجلب لسوريا العملة الصعبة والسمعة الثقافية والحضارية.

رواد الفن التشكيلي السوري وعشاقه الحاليون، رياض الصالح الحسين ودواوينه الرائعة، ذلك الشاعر الرائع الذي حلم أن تكون سوريا حرة وخالية من الألم والقهر.

شوارع دمشق القديمة ومقاهيها، صوت فيروز المترافق مع قهوة الصباح، قلعة حلب والحصن، الشاطئ السوري، كسب، وقرى الساحل وصباحاتها الساحرة، هي كنوز سورية بامتياز.

مواويل العتابا والغناء السوري العتيق، والمطربون السوريون، من فهد بلان إلى فريد الأطرش، ومعهم نجيب السراج، وغيرهم من مطربي سوريا وملحنيها، هم كنوز البلد.

ومع هؤلاء جميعًا، هناك طيبة الناس الحقيقية النابعة من محبة البلد والحرص عليه. كلّ ذلك يمكن أن يُبنى عليه لتكون سوريا جزءًا من هذا العالم، صديقة الجميع، مدينةً للسلام والطمأنينة.

لكن قبل كلّ شيء، علينا البدء بتشكيل الدولة السورية الحقيقية. ونحن هنا لا نخترع العجلة من جديد، إنما علينا أن ننظر حولنا إلى تجارب ناجحة، نُقلّدها ونطوّرها، ونجعل كرامة الإنسان وحريته أساس بناء هذه الدولة.

سوريا تحتاج إلينا جميعًا، ويمكن لآلاف الأفكار الخلّاقة أن تتحول إلى حقائق على الأرض. هناك من بدأ العمل فعليًّا منذ الثامن من شهر كانون الأول عام 2024، وهناك من يتابع.

يجب أن تكون دون كراهية، ودون عنصرية، ويجب أن تكون للجميع.

هل تكون هكذا سوريا؟ إنها رهاننا الكبير.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى