
قبل أكثر من عشر سنوات كنت في زيارة للعاصمة البريطانية لندن للتعرّف على البرامج الوقائية التي تتّبعها المملكة المتّحدة للتعامل مع الكوارث والتحديات البيئية المستقبلية هناك. زُرت حاجز نهر التايمز الذي شُيّد قبل أكثر من أربعين عاماً لحماية المدينة من الفيضانات النّاتجة عن المدّ والعواصف البحرية. أخبرنا المسؤولون هناك أن هذا الحاجز سيبقى فعّالاً حتى عام 2070 وأنّهم يُطوّرون حلولاً وإجراءاتٍ جديدة لضمان الحماية والحياة حتى عام 2100.
الأحداث المتسارعة حولنا تجعلنا نعيش حياتنا اليومية في تجاذب كبير, يُنسينا أحياناً أنّ هناك من يُخطّط لديمومة الحياة في مكانٍ ما, وأنّ غياب الفلسفة التخطيطية طويلة الأمد قد يُهدّد الحياة فيها بشكلٍ مباشر. في إحدى المشاريع التي شاركت فيها في العاصمة السويدية ستوكهولم، طُلب منا تصميم تدابير وقائية لحماية ركائز أهم الجسور الممتدة فوق المياه من خطر اصطدام السفن بها. كان المسؤولون في محافظة ستوكهولم وما حولها يعلمون يقيناً أن اصطدامًا واحدًا قد يتسبّب بكارثة كبيرة، لا تقتصر على تعطيل حركة السير فوق الجسر المعني فقط، بل على تعطيل الشريان الرئيسي للحياة في العاصمة السويدية. لذلك، تم إنشاء هياكل خرسانية ضخمة تحيط بأساسات الجسر داخل الماء، لتكون حائط صدّ لأي سفينة قد تنحرف عن مسارها.
نحن هنا – في الحديث عن حاجز نهر التايمز أو الهياكل الخرسانية الضخمة حول أساسات الجسور الحساسة في ستوكهولم – لا نتكلم عن تفصيل هندسي فحسب، بل عن فكرة بسيطة وجوهرية مفادها أن المدن الحديثة لا تُبنى ليكون مظهرها جميلاً فقط، بل تُبنى لتقاوم ولتحمي نفسها وسكّانها، ولتصمد أمام الكوارث المتوقعة وغير المتوقعة.
ولو تركنا أوروبا لنوجّه الأنظار لسوريا لرأينا أن بلدنا الحبيب قد عرف الزلازل، والفيضانات، والحروب، والانهيارات الاقتصادية، وأنّه لذلك لا يملك رفاهية التجريب أو التسرّع. بل يحتاج إلى أن يُبنى بعقلية استباقية، تدرس الحاضر والمستقبل وتستعد له دون خوف أو تردد. وهنا أقف على ما دار بيننا وبين معالي وزير الطوارئ والكوارث السيد رائد الصالح حين زرناه كوفدٍ من المبادرة السورية للكفاءات والتنمية في مكتبه في دمشق وتحدّثنا عن جاهزية المدن السورية للتعامل مع الكوارث المختلفة. كان لديه وضوح في الرؤيا مُلفتة، فهو يفهم أن سوريا ليست بلدًا متجانسًا من حيث الطبيعة أو المناخ. فبين المرتفعات الزلزالية في الشمال الغربي، والأنهار التي تخترق السهول، والمناطق الجافة المعرّضة للتصحر، تقف المدن السورية على مفترق من المخاطر الطبيعية المختلفة. ولا يجب على الوزارة أن تتعامل مع هذه الحالات المختلفة بآلية واحدة. بل إن على سياسات الصمود الحضري أن تُبنى على فهم دقيق لجغرافيا كل منطقة ومخاطرها الخاصة، وهذا ما أكّد لنا السيد رائد الصالح أنّ الوزارة تدرسه الآن.
الصمود الحضري – التطبيق العملي لمعنى الاستدامة
الصمود الحضري أو Urban Resilience كما يُعرف باللغة الإنجليزية هو التطبيق العملي لمفهوم الإستدامة. أعتقد أنّك سمعت مراراً بمصطلح الاستدامة لكنّك نادراً ما تسمع عن آلية واقعية للوصول إليها. يتمحور مفهوم الصمود الحضري حول سؤال جوهري عن قدرة المدينة على حماية أهلها من الظروف الصعبة بحيث تكون الحياة مستدامة فيها بشكل طبيعي ولأطول مدة زمنية ممكنة.
في السياق السوري، يكتسب هذا المفهوم بعدًا استثنائيًا. فنحن لسنا فقط أمام دولة خرجت من حالة حرب مدمّرة، بل أمام واقع معقّد تشوبه تحديات جيولوجية، ومناخية، واقتصادية، واجتماعية. فكيف نخطط وأمامنا مُدنٌ متعبة تعرف أن احتمالية وقوع الزلازل ليس مجرّد فرضية نظرية بل واقع حقيقي في شمال غرب سوريا مثلاً؟ بالإضافة إلى وجود مساكن بسيطة للنّازحين قد تنهار على رؤوسهم بسهولة؟ هل نعيد البناء بنفس العقلية والشكل والموقع والمواد؟ أم نعيد النّظر في ذلك كلّه لنحمي ساكنيها من كارثة محتملة؟
ثم هناك خطر الفيضانات الذي يهدّد مناطق عدّة من سوريا، خصوصًا تلك المجاورة للأنهار والسدود كبعض المناطق في ريف حماة وحوض العاصي وصولاً إلى تخوم دير الزور. فالمدن هناك تحتاج إلى تخطيط يراعي ألا تكون البيوت في مجاري السيول وألا تكون المستشفيات في مناطق تنعدم فيها طرق الإخلاء. ففي عام 2023، تسبّبت الأمطار الغزيرة في شلل جزئي لعدة مناطق في ريف طرطوس، بعدما غمرت المياه الطرق وأعاقت الوصول إلى المشافي والمدارس. لم تكن المشكلة في كمية الأمطار فقط، بل في غياب البنية التصريفية المناسبة، والتوسع العشوائي الذي تجاهل طبوغرافيا الأرض.
التغير المناخي بات عنصرًا جديدًا في معادلة التخطيط الحضري. فازدياد درجات الحرارة، وتغيّر أنماط الأمطار، وامتداد فصول الجفاف كلها ظواهر باتت تؤثر بشكل مباشر على المدن السورية، من الحسكة إلى درعا. لذا، لم يعد مقبولًا أن تستمر خطط الإعمار بنفس الأسس التقليدية. بل نحتاج إلى هندسة حضرية تراعي مرونة الأنظمة البيئية، وتُقلّل من آثار الاحتباس الحراري، وتُعيد النظر في العلاقة بين المدينة والطبيعة.
أمّا إذا انتقلنا إلى المنطقة الشرقية، حيث الحقول النفطية، نجد نوعًا آخر من الأخطار، كالحرائق. فالمناطق الغنية بالبترول تحتاج إلى إجراءات خاصة للسلامة، من بنية تحتية مقاومة للحرائق، إلى توزيع عمراني يراعي المسافات الآمنة بين النشاطات السكنية والصناعية وخطوط الإمداد اللوجستية.
ولكن الصمود الحقيقي لا يقتصر على الكوارث الطبيعية. فهناك الصمود الاقتصادي وهو ما ناقشناه في المقال السابق حيث تكلّمنا على أنّ المدينة كائنٌ اقتصاديٌ حيّ. وأنّ المدينة التي تُبنى بلا شبكة مواصلات، أو بلا سوق عمل مستقر، ستنهار تدريجيًّا تحت ضغط البطالة، والهجرة، والركود. لهذا فإن التخطيط الحضري القادر على الصمود يشمل تفاصيل كثيرة: من المواد المستخدمة في البناء، إلى موقع المدارس، مرورًا بتوزيع الأسواق ومحطات الوقود ومراكز الاستجابة السريعة. الصمود الاقتصادي لا يكون فقط عبر تنويع الوظائف أو دعم المشروعات الصغيرة، بل أيضاً من خلال تحقيق العدالة في توزيع البنية التحتية. فلا يمكن لمدينة أن تنمو إذا بقيت محرومة من الطرق الحديثة أو شبكات الكهرباء المستقرة أو الإنترنت السريع. المدينة التي تُحرم من الأساسيات تُترك وحيدة أمام موجات النزوح الاقتصادي، وهذا بحد ذاته يُفقدها القدرة على الصمود.
لا يمكن بناء مدنٍ صامدة من دون تحقيق العدالة المكانية. ما نعنيه بالعدالة المكانية هو ضمان وصول الخدمات الأساسية لجميع السكان دون تمييز جغرافي أو اجتماعي. فلا يجوز أن تبقى بعض الأحياء خارج تغطية شبكات الماء أو النقل أو الإنترنت، فقط لأنها “بعيدة” أو “غير مربحة اقتصاديًا”. المدينة الصامدة هي التي تضمن تكافؤ الفرص في الحصول على الخدمات، وتُزيل الفجوة بين المدينة والرّيف، وهي فجوة كبيرة إذا نظرنا بصدق إلى الحالة السورية.
كيف نبني مدنًا أكثر صمودًا واستدامة؟
إن مسألة الصمود الحضري أعمق بكثير من مجرّد استخدام تقنيات مقاومة للزلازل عند بناء الأبراج الجديدة في سوريا. نريد من هذا المقال وما سبقه من مقالات أن نرفع من مستوى الوعي والإلمام بعدد من المفاهيم المفصلية في عملية إعادة الإعمار. وكذلك أن نشارك في إعادة تشكيل العقلية التخطيطية بحيث تُبنى المدن بفهمٍ واقعي للمخاطر، وبطموحٍ اقتصادي واجتماعي لا يرضى بتكرار أخطاء الماضي.
أول ما نحتاجه هو ما أشار إليه معالي وزير الطوارئ والكوارث السيد رائد الصالح في لقائنا معه، حيث ذكر مسائل في غاية الأهمية حول دراسة أفضل الممارسات العالمية لإدارة الطوارئ والكوارث وبناء قاعدة بيانات وطنية دقيقة، توثّق المخاطر الجيولوجية والمناخية في كل منطقة حسب نوعية المخاطر المرتبطة بها، وأن يتم الدمج بين المعطيات الحديثة والدروس المتراكمة من العقود الماضية. هذه البيانات والمعلومات ستكون بدورها مرشدةً لرسم خرائط جديدة توضّح مثلاً المناطق التي يكون فيها البناء محظوراً أو مقيّداً، بينما تشير إلى الأماكن الأكثر أمناً وسلامة للسكان.
ثانيًا، علينا مراجعة معايير البناء وشروط تدريب الكوادر المحلية وفاعلية أنظمة الإشراف على مشاريع البناء. فالبناء السريع لا يعني أنّه الأفضل، ولا الرخيص يعني أنّه الأذكى. جودة البناء وكفاءته تكمن في كونه قادرًا على الصمود لعقود، دون أن يتحوّل إلى عبء على الدولة أو خطر على السكان.
ثالثًا، لا بد من الدمج بين أهداف الصمود وأهداف الاستدامة. يجب على المدن أن تعيش طويلًا، ولكن يجب أيضًا أن تُحافظ على البيئة، وأن تُعيد تدوير مواردها، وتُقلّل من اعتمادها على الطاقة المستوردة. وهذا يتطلب شبكات نقل عام فعّالة، ونظم إدارة مياه متطوّرة، ومحفّزات تُشجّع على العمارة البيئية في كل مشاريع البناء الجديدة.
أخيرًا، لا يُمكن أن نحقق كل هذا دون مشاركة الناس. فالصمود الحضري لا تصنعه القرارات الحكومية وحدها، بل يصنعه وعي الناس بحقوقهم وواجباتهم، ومشاركتهم في صيانة المدينة والتمسّك بجودتها، والتبليغ عن مكامن الخطر فيها.
تأكيداً على ما ذكرته في مقالات سابقة فإننا اليوم نعيش لحظة تاريخية ونملك فرصة نادرة لتجاوز مرحلة” الترقيع” العمراني إلى مرحلة تخطيطٍ واعٍ. ولهذا، يجب أن يُوضع إطار وطني لإعادة تخطيط المدن السورية انطلاقاً من أسس التخطيط الحضري الحديثة التي تراعي التوازن الاقتصادي ومبادئ الاستدامة والصمود الحضري. وهذا ما سأختم به هذه السلسلة من المقالات حول إعادة إعمار سوريا.
المصدر: تلفزيون سوريا