نظام شرق أوسطي جديد: بالتفكيك.. أم بالتدمير!

عبد المنعم مصطفى

أيهما يلد الاخر، ويسبقه، ويضع بصمته عليه؟!.. النظام الدولي أم النظام الإقليمي؟!.. من منهما يقتاد الآخر ويفتح له الطريق؟!

لقد صاغت حروب الثلاثين عاماً في أوروبا (1618-1648) نظاما إقليمياً أوروبياً بات يعرف بنظام ويستفاليا (صلح ويستفاليا)، أرسى بدوره القواعد لنظام دولي، دام حتى وضعت الحرب العالمية الأولى نهاية له، وفرضت على دول اوروبا، نظاماً دولياً جديداً أرساه صلح فرساي (1919)، الذي أنهته الحرب العالمية الثانية، التي صاغت بدورها إتفاق يالطا الثلاثي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وبريطانيا.

كان هناك دائما صراع في أوروبا، تقود نتائجه إلى نظام دولي جديد، عرفت معه البشرية، صيغاً للتنظيم الدولي مرتين، الأولى بقيام عصبة الأمم فوق أنقاض عالم ويستفاليا، والثانية بقيام الأمم المتحدة فوق أنقاض عالم فرساي.

ما يحدث الآن أمام ناظرينا هو تفكيك النظام الدولي- الذي أرست قواعده صيغة يالطا – بديلاً عن تدميره.

عملية التفكيك بدأت في تقديري باستدراج الاتحاد السوفياتي السابق (روسيا الآن) إلى التورط بغزو أفغانستان في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1979، واستنزافه فيها حتى شباط/فبراير 1989، حين اضطر السوفيات إلى الانسحاب من أفغانستان بينما كان الاتحاد يتعرض لأخطر عملية تذويب تتعرض لها قوة عظمى كانت تملك في لحظة الانهيار، أضخم ترسانة نووية عرفها التاريخ.

بانهيار الاتحاد السوفياتي، انهار معه حلف وارسو (تأسس عام 1955 رداًعلى انضمام ألمانيا الغربية إلى حلف الناتو، وضم عند التأسيس كل من الاتحاد السوفياتي، وألمانيا الشرقية والمجر وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا وبولندا وألبانيا) وانهار معه النظام الدولي الذي أنتجته الحرب العالمية الثانية.

وبينما كان الغرب يؤلف ويقرأ  كتاب “نهاية التاريخ” لفرانسيس فوكوياما، و”صراع الحضارات” لصموئيل هنتجتون، احتفالاً بانتصاره التاريخي في حرب كونية ثالثة انهار فيها الخصم المنافس دون طلقة “نووية” واحدة، كان المسرح الدولي يتأهب لصراع جديد، أراد الأميركيون أن يفرضوا نتائجه على العالم لمئة عام أخرى جديدة، فخرج الرئيس الأمريكي بيل كلينتون على العالم رافعاً شعار “we should prevail” (يجب أن نسود)، موضحاً أن القرن المقبل يجب أن يكون أميركياً.

كان بيل كلينتون حين فاز بالرئاسة لأول مرة عام 1992، هو أول رئيس أميركي مولود بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ما يعني أن الرجل سيدير العالم بقوانين جيله، بدون قطبية ثنائية، وبدون حرب باردة، وبدون سباق تسلح.

وبدا أن أميركا المنتصرة في الحرب الباردة دون حرب -كما توقع رئيسها  الجمهوري ريتشارد نيكسون في كتابه “victory without war” (نصر بلا حرب)- تتأهب لبسط قوانينها على العالم، وهو ما جرى ويجري على مدى قرابة نصف قرن. حيث تمارس الولايات المتحدة إدارة النظام الدولي القائم باعتبار أنه نظام أحادي القطب يجلس فيه العالم كتلميذ بليد في حصة إملاء دولية، يتلقى فيه الآن إملاءات الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، الذي ركل باب العالم بمقدمة حذائه الكلاسيكي، وراح يدسّ أنفه في كل شأن، ويملي إرادته في كل أمر.

عالم دونالد ترامب، شهد ويشهد تحديات تفرضها ولادة مستحقة لنظام دولي جديد يقرع بقبضته القوية أبواب العالم، في ثلاث بؤر حاسمة، إحداها هنا عندنا في منطقتنا، والأخرى في أوكرانيا، حيث قلب أوروبا الذي يغير العالم كلما جاءه مخاض التغيير، أما الثالثة فهي في الشرق الأقصى حيث مخاض صراع دامٍ تتحد به الصين وتكبر، أو تخفق في سداد فواتيره فتصغر.

بؤرة المخاض الدولي في منطقتنا، هي ذروة مخاض لولادة نظام إقليمي شرق أوسطي جديد، يبدو من مجرياته حتى الان، أنه يقتادنا بشراك خداعية إلى حفل تقيمه إدارة ترامب في منطقتنا لتنصيب إسرائيل زعيمة لنظام إقليمي شرق أوسطي جديد، يجري الآن تهيئة مسرحه لحفلات بسط الإرادة بالقوة، انطلاقاً من سوريا، كما اعتادت المنطقة عبر تاريخها الطويل والممتد.

قبل أكثر من مائة عام، كانت سوريا هي غرفة الولادة لنظام إقليمي جديد (آنذاك) أصبح معروفاً فيما بعد باسم الشرق الأوسط، الآباء الأوائل للشرق الاوسط القديم باتوا معروفين لنا، بعدما سمحت السنين بكشف هوياتهم على أنهم (سايكس- بيكو- سازانوف)، ممثلي بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية على التوالي.

والآن، بعد أكثر من مئة عام على ولادة الشرق الأوسط، تعود سوريا بموقعها الاستراتيجي، وبتركيبتها الفريدة لتستضيف الولادة الثانية لشرق أوسط جديد.

المشهد على الأرض في سوريا، وفي دهاليز السياسة في واشنطن، يشير إلى بداية جديدة لحرب جديدة بأدوات جديدة، فوق ذات المسرح السوري القديم.

الهدف الأول، إقصاء إيران خارج معادلات النظام الإقليمي الشرق أوسطي الجديد، والهدف التالي، إقصاء تركيا خارج معادلات النظام الإقليمي المنتظر، أما الهدف الثالث فهو تمكين إسرائيل بالقوة من قيادة مشهد إقصاء إيران أمام ناظري القوى الإقليمية العربية، ليقرر بعدها العرب ما إذا كانوا في وارد المواجهة مع إسرائيل التي توحدت مع الولايات المتحدة، أم أنهم يفضلون إرجاء خيار المواجهة إلى زمن لاحق ترفق فيه الدنيا بحالهم.

المصدر: المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى