أمينة أردوغان في إفريقيا

معن البياري

مناسبة الالتفاتة أدناه إلى كتاب عقيلة الرئيس التركي، أمينة أردوغان، “جولاتي الإفريقية”، أنني التقطتُه في جناحٍ يعرِض منتوجاتٍ ومصنوعاتٍ تقليديّةً إفريقية، لمؤسّسةٍ أهليةٍ، بين أجنحةِ عدّة مؤسّساتٍ، على هامش منتدى أنطاليا الرابع الشهر الماضي. ولمّا هممْتُ أن أدفع ثمنه، أبلغتني المشرفة على الجناح أنه هديّة. قد تكون هذه مناسبةً مصطنعةً لارتجال مقالةٍ عن كتابٍ لا اسم لمترجمه، صدر بالعربية قبل نحو خمس سنوات، سيّما أن نشرَه بعدّة لغاتٍ يأتي ضمن جهود علاقاتٍ عامّةٍ للدبلوماسية التركية، المتعدّدة المستويات والأوجه، والتي تنتبه كثيراً إلى المناحي الثقافية والفنية في علاقات بلاد الأناضول بالخارج، وبالشعوب والأمم، وليس بالبلدان والمصالح والجغرافيات فقط. وإلى هذيْن السببيْن، الوجيهيْن ربما، اللذيْن يدفعان إلى عدم الانشغال بكتابٍ من هذا النوع، ينضافُ أن كاتبته دوّنته لتوثيق زياراتها مؤسّساتٍ ومنشآتٍ إنسانيةٍ وتعليميةٍ وفنيّةٍ وإغاثيةٍ وخيريةٍ في الدول الإفريقية التي زارتها مع زوجها، ما جعله أقرب إلى الدعائية.

ولكن كل الأسباب أعلاه، وربما غيرها أيضاً، تنزاح، عندما يقع قارئ هذا الكتاب (212 صفحة تتخلّلها صور عديدة) على الروحيّة التي كانت تصدُر عنها أمينة أردوغان، وهي تكتُبُ عن أوضاعٍ عاينتْها، يكابدها أطفالٌ ونساءٌ وأيتامٌ وجوعى في موزمبيق وغينيا بيساو وزامبيا (وغيرها)، أقصد تلك الروحيّة الشفيفة التي لا تُبقي نفسَها في حسّ التعاطف فحسب، بل تصبح دافعاً إلى إنجاز شيءٍ، والمبادرة إلى فعلٍ يعين هؤلاء، ويسعفُهم، من باب المشترك الإنساني معهم. وأمرٌ آخر يزيح تلك البواعث التي قد تشجّعك على الانصراف عن هذا الكتاب أنه يورّطك، أنت قارئَه العربي، في زوبعةٍ من أسئلةٍ في جوانحك، من قبيل أنك لا تتذكّر أنك صادفتَ خبراً عن زيارة زوجة رئيس وزراء أو رئيس عربي تشاد أو غامبيا مثلاً (كانت جولات أمينة أردوغان في إفريقيا مع زوجها إبّان كان رئيساً للوزراء ثم رئيساً للجمهورية في ولايته الأولى). لا يُغادرك سؤالٌ عن السبب الذي يجعل زوجة رئيسة وزراء أو رئيس تركيا تجول معه في 23 بلداً إفريقياً، بعضُها أكثر من مرّة (بينها الجزائر والسودان وتونس وموريتانيا والصومال وجيبوتي)، فيما لم نر أيّاً من عقيلات أصحاب الفخامة ورؤساء الحكومات العرب في مستشفى في مدغشقر، تشارك في تسليم حاضناتٍ وأسرّة ولادةٍ ومعدّاتٍ طبّية وكراسي متحرّكةٍ تعمل بالبطاريات الخاصة بذوي الحاجات الخاصة. ولم نُصادف أيّاً منهن في الصومال، البلد العربي الذي زاره في 2011 رئيس الوزراء التركي، أردوغان، وبرفقته وفدٌ حكومي كبير، ومسؤولون حزبيون، وفنانون، وزوجته وابنته وصهره. تكتب السيدة أمينة أنها لمّا أمسكت بيد أمٍّ في الصومال فقدت فلذة كبدها بسبب الجوع “علمنا جميعاً أن الدموع التي هي لغةٌ مشتركةٌ بين عديمي الحيلة لا تحتاج إلى مترجم”. وكتبت أنها ربما لم تبكِ بعد ذلك اليوم بقدر ما بكت في ذلك اليوم. ونقلت عن “السيدة الأولى الصومالية” قولها إنها أول مرّةٍ ترى فيها سيدةً أولى تبكي.

تُخبرنا أمينة أردوغان بأننا عندما نمضي بعض الوقت في إفريقيا نكتشف أن كأساً واحدةً من الماء النظيف لها معانٍ أكثر. ومن جميل ما سارت عليه في سرودها في الكتاب أنها تأتي على مظاهر القوة في مجتمعات البلدان الإفريقية التي زارتها، من قبيل ما تؤدّيه النساء فيها. وصاحبة الكتاب تُظهر اهتماماً كبيراً بهذا الجانب، وهذا طبيعي، فضلاً عن توضيحها مزايا كل بلدٍ، طبيعته وإمكاناته وثرواته، المائية والزراعية وغيرهما، كما تعرّف القارئ بلغة البلد وتكويناته الاجتماعية (مثلاً، لم أكن أعرف أن حوالي 40% من سكّان ساحل العاج دون الخامسة عشرة). تكتُب، في معرض حديثها عن مركزٍ للأيتام في جيبوتي، أن قلبها ينفطر مرّتين لرؤية الأيتام في هذه المنطقة، التي تعاني هي نفسها اليتم. وفي مختتم حديثها عن زيارتها مركزاً للأيتام في غانا تكتُب “جميع أيتام العالم أمانةٌ مشتركةٌ في عنق الإنسانية”.

يقيم في أمينة أردوغان إحساسٌ بأن من “الضروري الحيلولة دون اعتبار الضعف المألوف لدى إفريقيا قدراً مكتوباً عليها. يجب ألّا نعتبر المصائب التي تواجهها إفريقيا أمراً طبيعيّاً فيها”. وترى، وهي تختتم كتابة جذّابة عن تنزانيا، أن “إفريقيا أحد أهم الجسور التي ستحمل ماضي التاريخ البشري كله إلى المستقبل”… رؤى كثيرة مثل هاتيْن أقرؤهما في الكتاب، فلا أراني أخطأتُ عندما اقتنيتُه، ثم طالعتُه، ثم قرّظتُه هنا، فيما أنني أُهْديتُه من باب العلاقات العامة.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى