عدالة انتقالية في سوريا: ضرورة وطنية لمنع الانتقام وضمان الاستقرار ما بعد النزاع

فضل عبد الغني

مع سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، طُويت صفحة مظلمة من تاريخ سوريا امتدت لأكثر من نصف قرن. هذا التحول التاريخي، الذي جاء بعد أربعة عشر عاماً من نزاع مسلح مدمّر، يضع المجتمع السوري أمام مفترق طرق مفصلي: إما المضي نحو بناء دولة قائمة على العدالة وسيادة القانون، أو الانزلاق نحو دوامة من الفوضى والانتقام وتصفية الحسابات.

تبرز اليوم معضلة جوهرية في المشهد السوري تتمثل في التوازن بين الرغبة المشروعة للضحايا في تحقيق العدالة، وخطر تحول هذه الرغبة إلى أعمال انتقام فردية خارج إطار القانون. بدأنا نشهد بالفعل حالات متزايدة من الانتقام الشخصي ضد عناصر محسوبة على النظام السابق، وإن استمرار هذه الظاهرة وتوسعها يهدد بتقويض أي فرصة لبناء سلام مستدام، ويضع العملية الانتقالية برمتها على محك خطير. من هنا تبرز الأهمية القصوى لوجود إطار مؤسسي للعدالة الانتقالية، يستجيب لتطلعات الضحايا في الإنصاف ويكفل حقوقهم، ويحمي المجتمع من الانزلاق نحو حلقة جديدة من العنف المدمر.

ثانياً: إرث الانتهاكات الجسيمة وتداعياتها المجتمعية

يواجه المجتمع السوري اليوم إرثاً ثقيلاً من الانتهاكات الجسيمة التي ارتُكبت على مدار 14 عاماً من النزاع المسلح. وفقاً لقاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد وُثّق مقتل ما لا يقل عن 231 ألف مدني، من بينهم 202 ألف قُتلوا على يد قوات نظام الأسد. كما تم توثيق 157 ألف حالة إخفاء قسري، إضافة إلى استخدام أسلحة محرمة دولياً بشكل ممنهج، حيث ألقى الطيران الحربي ما لا يقل عن 81,916 برميلاً متفجراً، ونفّذ 217 هجوماً كيميائياً، و252 هجوماً بذخائر عنقودية. وقد أدت هذه الانتهاكات الممنهجة إلى تشريد قرابة 14 مليون سوري – أي ما يعادل نصف السكان – بين نازح داخلي ولاجئ في دول الجوار والعالم.

تتجاوز هذه الأرقام المجردة حدود الإحصاءات لتشكل جروحاً عميقة في الوجدان الجمعي السوري. فالأثر النفسي والاجتماعي لهذه الانتهاكات يمتد بشكل متشعب ومعقد في أنسجة المجتمع بأكمله. لقد شهدنا انهياراً حاداً في منظومة القيم الاجتماعية، وتفككاً بنيوياً في النسيج المجتمعي التقليدي، وتدميراً شاملاً لشبكات الأمان والتضامن المحلية. وقد أدت عمليات النزوح القسري الهائلة إلى تمزيق النسيج الديموغرافي للمدن والقرى السورية، وخلق واقع جديد من الاستقطاب الحاد والفرز السكاني على أسس طائفية وسياسية. كما تركت تجارب الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري آثاراً نفسية عميقة وممتدة، لا تقتصر على الضحايا المباشرين فحسب، بل تمتد لتشمل دوائر أوسع من عائلاتهم ومجتمعاتهم المحلية.

في ظل هذا الواقع المأزوم والمعقد، بات خطر الانتقام الشخصي وتصفية الحسابات تهديداً وجودياً للاستقرار المجتمعي في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد. وتؤكد تجارب الدول الخارجة من نزاعات مشابهة أن غياب آليات العدالة المؤسسية والمنظمة يؤدي حتماً إلى تنامي ظاهرة “العدالة الشعبية” أو “محاكم الشارع”. وتُستغل هذه العمليات غالباً لدوافع انتقامية شخصية ولمصالح اقتصادية أو طائفية. هذا الواقع المنفلت من الضوابط القانونية والأخلاقية يؤدي إلى تآكل ثقة المواطنين بالعدالة، ويُسهم في إنتاج موجات جديدة من العنف، الأمر الذي يزيد من تعقيد إمكانيات الوصول إلى السلم الأهلي، ويقوّض بشكل جذري أسس بناء الدولة ويعرقل أي مسار حقيقي للمصالحة الوطنية.

إن التجربة العراقية بعد سقوط نظام صدام حسين تمثل مثالاً صارخاً على مخاطر غياب استراتيجية متكاملة للعدالة الانتقالية، حيث أدى ذلك إلى تفاقم الانقسامات الطائفية وإطلاق موجات متعاقبة من العنف الانتقامي. وفي جوهر المسألة، فإن المواطنين لا يلجؤون إلى الانتقام الشخصي إلا عندما يفقدون الثقة تماماً في قدرة المؤسسات الرسمية على تحقيق العدالة الحقيقية والفعالة.

ثالثاً: رؤية شاملة للعدالة الانتقالية في سوريا

طورت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، استناداً إلى خبرتها الميدانية الممتدة على مدار 14 عاماً، رؤية متكاملة للعدالة الانتقالية في سوريا. تقوم هذه الرؤية على فهم عميق للسياق السوري وخصوصياته الفريدة، وتستلهم أفضل الممارسات الدولية في مجال العدالة الانتقالية، مع تكييفها بشكل دقيق بما يتناسب مع التعقيدات المحلية.

الخطوة الأولى تتمثل في إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية، تكون بمثابة المظلة المؤسسية الجامعة لإدارة العملية برمتها وضمان تناسقها. تتمتع الهيئة المقترحة باستقلالية مالية وإدارية تامة عن السلطة التنفيذية، مع صلاحيات واسعة تتيح لها القيام بمهامها بفعالية ونزاهة. وتضم الهيئة خبراء متخصصين من اختصاصات متنوعة – كالقانون المحلي والدولي، والتوثيق وجمع الأدلة، والاقتصاد، والدعم النفسي والاجتماعي – وتراعي في تشكيلها بدقة التنوع الديني والعرقي والسياسي للمجتمع السوري، مما يضمن تمثيلاً شاملاً وعادلاً.

وتتمحور هذه الرؤية حول أربعة أركان أساسية تشكل معاً منظومة متكاملة ومترابطة لتحقيق العدالة، والمساءلة، والمصالحة، وضمان عدم تكرار انتهاكات الماضي المؤلمة.

الركن الأول هو المحاسبة الجنائية، التي تشكل حجر الزاوية في أي عملية عدالة انتقالية فعّالة. لذا يجب إنشاء محاكم خاصة مختلطة، تجمع بكفاءة بين القضاة والخبراء المحليين والدوليين، للنظر بشكل محايد ومهني في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت خلال سنوات النزاع المريرة.

الركن الثاني يتمثل في عمليات الحقيقة والمصالحة، ويتضمن توثيقاً منهجياً للانتهاكات وتحديداً دقيقاً لمرتكبيها، وإنشاء لجان متخصصة للحقيقة تضم خبراء قانونيين ونفسيين واجتماعيين وممثلين عن المجتمع المدني والضحايا، لضمان معالجة شاملة للماضي تمهد الطريق نحو المصالحة الحقيقية.

الركن الثالث يركز على جبر الضرر وإصلاح المؤسسات، ويشمل تعويض الضحايا مادياً ومعنوياً بصورة عادلة وشاملة. فعلى المستوى المادي، يجب تقديم منح نقدية وخدمات تفضيلية للضحايا وأسرهم، وإعادة حقوق الملكية المنهوبة، وتمويل مشاريع الإسكان وبرامج إعادة التأهيل الاقتصادي. أما على المستوى المعنوي، فيجب تطوير برامج متكاملة لإعادة التأهيل النفسي والاجتماعي، وبناء نصب تذكارية تخلد ذكرى الضحايا، وتخصيص أيام وطنية لإحياء ذكراهم بكرامة، وإنشاء متاحف ومراكز توثيق تحفظ الذاكرة الجماعية.

الركن الأخير هو إصلاح المؤسسات التي تورطت في الانتهاكات، خاصة المؤسسات القضائية والأمنية والعسكرية، بما يضمن بناء حكم القانون ومنع تكرار انتهاكات الماضي.

رابعاً: ضرورة التنفيذ العاجل

تشير الدراسات والأدبيات المتخصصة في مجال العدالة الانتقالية إلى وجود “نافذة فرصة” حرجة تعقب مباشرة سقوط الأنظمة الاستبدادية وانتهاء النزاعات المسلحة. هذه النافذة الزمنية، التي نادراً ما تمتد لأكثر من عام واحد، تمثل فترة حاسمة وذهبية يمكن استثمارها بفعالية لوضع أسس متينة للعدالة الانتقالية. وفي السياق السوري الراهن، نجد أنفسنا الآن في خضم هذه الفترة الحرجة والفاصلة، وأي تأخير في التحرك السريع والمدروس قد يؤدي حتماً إلى ضياع فرصة تاريخية لا تعوض لإرساء أسس العدالة والمصالحة المستدامة. تقدم تجارب دول مثل تشيلي والأرجنتين وجنوب أفريقيا دروساً قيّمة وملهمة حول أهمية التحرك السريع والمنهجي في هذه المرحلة الحساسة، في حين تُظهر تجارب العراق وليبيا وكمبوديا بوضوح العواقب الوخيمة والتكاليف الباهظة للتأخير والارتجالية.

إن تأجيل تطبيق آليات العدالة الانتقالية يعرّض المجتمع السوري لمخاطر متعددة ومتشعبة، أبرزها ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب التي سادت لعقود طويلة، مما يقوّض بشكل خطير الثقة في شرعية المؤسسات الجديدة ويبعث برسالة مدمرة مفادها أن ارتكاب الانتهاكات الجسيمة لا يستتبع مساءلة حقيقية. كما أن التأخير يعمق شعور الإحباط والغبن لدى قطاعات واسعة من الضحايا، ويغذي بشكل مباشر نزعات الانتقام الفردي. وهناك حقيقة اجتماعية-نفسية جوهرية لا يمكن تجاهلها: فراغ العدالة الرسمية سرعان ما تملؤه أشكال من “العدالة الشعبية” التي غالباً ما تكون عشوائية وانتقامية وتفتقر للضمانات القانونية الأساسية.

تشكل الأشهر الأولى بعد سقوط نظام الأسد، والتي توشك على الانقضاء، فترة مفصلية ونوعية تتيح فرصة نادرة لإرساء قواعد جديدة وراسخة للتعامل مع إرث الماضي الثقيل. ففي هذه الفترة الحاسمة، يتوفر اهتمام وطني ودولي استثنائي بقضايا العدالة، وتكون الذاكرة الجماعية لما جرى حاضرة بقوة وحيوية. كما أن الفصائل والمجموعات المسلحة تكون أكثر استعداداً للتعاون في هذه المرحلة المبكرة، قبل أن تترسخ مصالح جديدة وتتبلور تحالفات قد تعرقل بشدة مسارات العدالة مستقبلاً. لذا، من الضروري والحتمي استثمار هذه النافذة الزمنية الضيقة لوضع الأطر القانونية والمؤسسية المتينة التي ستحكم عملية العدالة الانتقالية برمتها.

تواجه سوريا مجموعة من المخاطر المحددة والملموسة التي تجعل التنفيذ العاجل للعدالة الانتقالية أمراً لا يحتمل التأجيل أو التسويف:

  1. اختفاء الأدلة: مع مرور الوقت، تتزايد بشكل كبير مخاطر فقدان أدلة حاسمة وجوهرية على الانتهاكات. لقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان بالفعل محاولات من بعض الأطراف لتدمير وثائق وأدلة خاصة في الأيام الأولى والحاسمة لسقوط نظام الأسد.
  2. فرار المسؤولين عن الانتهاكات: تجري حالياً محاولات من قبل متورطين رئيسيين في انتهاكات جسيمة للهروب خارج البلاد والإفلات من المساءلة. كل يوم يمر دون إنشاء آلية واضحة وفعالة للمساءلة الجنائية يزيد من فرص هروب المزيد من المتورطين، مما يهدد بشكل مباشر بضياع فرصة العدالة الحقيقية للضحايا.
  3. تصاعد أعمال الانتقام الفردية: في غياب آليات مؤسسية فعالة للعدالة، يتزايد بشكل مقلق خطر انتشار أعمال الانتقام الفردية والجماعية. وكما يُظهر التاريخ بوضوح، فإن دورات الانتقام تميل إلى توليد دورات مضادة من العنف المضاد، مما يؤدي إلى استمرار دوامة العنف بأشكال جديدة ومتجددة.
  4. ترسيخ الانقسامات المجتمعية: أدى النزاع السوري إلى استقطاب حاد وعميق في المجتمع على أسس سياسية وطائفية وإثنية متعددة. وبغياب آليات رسمية وشاملة للكشف عن الحقيقة والمساءلة والمصالحة، تترسخ هذه الانقسامات بشكل متزايد وتتحول إلى هويات متصلبة يصعب تجاوزها مستقبلاً. لقد أثبتت تجارب دول مثل رواندا ويوغوسلافيا السابقة وإيرلندا الشمالية أن التأخير في معالجة الانقسامات المجتمعية بعد النزاع يجعلها أكثر استعصاءً على الحل مع مرور الوقت.
  5. تآكل الذاكرة الجمعية والتطبيع مع الإجرام: في ظل غياب مسار واضح وفعال للعدالة الانتقالية، تظهر بوادر خطيرة تهدد الذاكرة الجمعية، بما في ذلك احتمالات طمس الحقيقة وتشكيل روايات متضاربة حول سنوات النزاع تغذيها بدرجة كبيرة حالة من التطبيع مع الوجود العلني للجناة في الحياة العامة.

في سوريا اليوم، لا يزال عدد من الأفراد المتورطين في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك مجرمو حرب بارزون (مثل فادي صقر ومحمد حمشو)، يعيشون داخل المجتمع السوري ويواصلون حياتهم اليومية دون الخضوع لأي مساءلة قانونية. التراخي في محاسبة هؤلاء لا يضعف فقط من ثقة الضحايا بعدالة المرحلة الانتقالية، بل يخلق أيضاً مناخاً مطبعاً مع الإجرام ويقلل من خطورته في الوعي العام، ويبقي على عناصر خطيرة داخل المجتمع قد تعيد إنتاج العنف في أي لحظة.

  1. إعاقة المصالحة الوطنية: تُعد المصالحة الوطنية الحقيقية هدفاً رئيسياً وأساسياً للعدالة الانتقالية، لكنها لا تتحقق تلقائياً بمجرد انتهاء النزاع. إنها عملية معقدة ومتعددة الأبعاد تتطلب بناء الثقة، والاعتراف العلني بمعاناة الضحايا، وتقديم المسؤولين للمحاسبة العادلة، وإصلاح المؤسسات التي سمحت بالانتهاكات. كل يوم يمر دون خطوات ملموسة في هذا الاتجاه، يزيد من تجذر الضغائن ويُصعِّب مسار المصالحة مستقبلاً. في سوريا اليوم، تتوفر فرصة نادرة وثمينة لبدء عملية حوار وطني شامل حول الماضي وكيفية التعامل معه بشكل بنّاء، لكن هذه الفرصة تتآكل بسرعة مع مرور الوقت. إن آليات العدالة الانتقالية توفر منصة مثالية لهذا الحوار وتضمن أن يكون بناءً ومنتجاً، وليس مجرد تبادل للاتهامات أو محاولة لطمس الحقيقة.

في ضوء هذه المخاطر المتعددة والملموسة، أعتقد جازماً أن تأجيل تطبيق العدالة الانتقالية لا يجب أن يكون خياراً مطروحاً لسوريا، بل إن التحرك السريع والمنهجي والشامل هو ضرورة وطنية ملحة وحتمية لبناء مستقبل آمن ومستقر لجميع السوريين.

خامساً: العدالة الانتقالية وبناء الدولة: موازنة الأولويات في سياق الدول الهشة

تثير المسارات المعقدة للعدالة الانتقالية في الدول الخارجة من النزاعات العديد من التساؤلات العميقة حول الأولويات والتوقيت والمقاربات المثلى. إن الموازنة الدقيقة بين مقتضيات إعادة بناء الدولة وتحقيق العدالة للضحايا تمثل تحدياً استراتيجياً محورياً يستلزم فهماً عميقاً ومتبصراً للسياقات المحلية والمخاطر المحتملة. في السياق السوري الراهن، تبرز هذه المعضلة بشكل جلي وملموس، حيث تتنافس احتياجات التعافي الاقتصادي العاجلة، وتحقيق الأمن المستدام، وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، مع مطالب العدالة والمساءلة المشروعة، في ظل موارد محدودة للغاية وقدرات مؤسسية هشة وضعيفة.

يرتكز خطاب “الاستقرار أولاً، العدالة لاحقاً” على فرضية أساسية مفادها أن إعادة بناء الدولة ومؤسساتها تشكل أولوية قصوى وملحة، وأن المساءلة القانونية قد تهدد هذا المسعى الحيوي من خلال إثارة الانقسامات المجتمعية وتقويض التسويات السياسية الهشة. غير أن دراسات الحالة المقارنة المعمقة من تجارب السلفادور وغواتيمالا وسيراليون وتيمور الشرقية تشير بوضوح إلى أن تأجيل مسارات العدالة يمكن أن يؤدي إلى ترسيخ نماذج خطيرة للإفلات من العقاب وإعادة إنتاج دورات العنف على المدى المتوسط والطويل. لذا أعتقد أن المقاربة الأكثر توازناً واستدامة هي النظر إلى العدالة الانتقالية وبناء الدولة ليس كمسارين متعارضين بالضرورة، بل كعمليتين متكاملتين ومترابطتين يعزز كل منهما الآخر بشكل عضوي، شريطة تصميمهما بحساسية عالية ودقة متناهية للخصوصيات السياقية المحلية.

تؤكد الأدبيات المتخصصة أن مفهوم العدالة الانتقالية يمثل في جوهره “مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية المتكاملة التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان”. بيد أن خصوصية كل سياق وطني تتطلب تكييفاً دقيقاً لهذه الآليات والتفكير الاستراتيجي في توقيتها وتسلسلها المنطقي. وتكشف بعض التجارب الدولية المقارنة أن فرض آليات العدالة الانتقالية بشكل شامل ومتسرع في سياقات هشة ومأزومة قد يؤدي إلى نتائج عكسية غير مقصودة. فقد أشارت دراسات متعمقة تناولت عدة حالات دولية إلى أن “حجم الفظائع المرتكبة وتعقيدات المشهد السياسي تمثل تحديات هائلة تستدعي مقاربات مدروسة ومتأنية”.

في ضوء كل ما سبق، هناك ضرورة للتفكير بمقاربة متدرجة ومتوازنة تراعي بدقة خصوصية الحالة السورية الفريدة، حيث المؤسسات الرسمية في حالة انهيار شبه تام، والانقسامات المجتمعية عميقة ومتشعبة، واحتياجات إعادة الإعمار هائلة وملحة. لذا أعتقد أن هناك ضرورة حتمية لتبني مسار متدرج ومتسلسل للعدالة الانتقالية، يبدأ بالخطوات الأكثر إلحاحاً وقابلية للتنفيذ، مع وضع خارطة طريق واضحة المعالم وزمنية للمدى المتوسط والبعيد. وفي المقابل، تكمن مخاطر النهج المتسرع والشامل في احتمالية تحميل المؤسسات الناشئة والهشة أعباءً تفوق قدراتها الفعلية، وخلق توقعات غير واقعية لدى قطاعات واسعة من الضحايا، مما قد يؤدي إلى خيبات أمل مؤلمة وتأجيج للتوترات المجتمعية الكامنة.

سادساً: خاتمة

تقف سوريا اليوم على مفترق طرق تاريخي ومصيري، بعد أربعة عشر عاماً من نزاع مدمر، وعقود طويلة من الحكم الأسدي الاستبدادي القاسي. إن الخيارات الاستراتيجية التي ستتخذها الدولة والمجتمع خلال هذه المرحلة الانتقالية الحرجة ستحدد بشكل حاسم مسار البلاد لعقود قادمة، وستؤثر بصورة مباشرة وعميقة على فرص تحقيق الاستقرار المستدام والسلام الاجتماعي الحقيقي. في هذا السياق المفصلي، تبرز العدالة الانتقالية بوضوح كطريق وسط استراتيجي ومتوازن بين نقيضين خطيرين: سياسة الإفلات من العقاب التي تديم الظلم التاريخي وتزرع بذور الصراعات المستقبلية المحتومة، ودوامة الانتقام والثأر العشوائي التي تهدد بتمزيق النسيج الاجتماعي الهش وإشعال حلقة جديدة من العنف المدمر.

إن العدالة الانتقالية، بمفهومها الشامل والمتكامل الذي يتجاوز حدود المحاكمات القضائية ليشمل آليات الحقيقة والمصالحة وجبر الضرر وإصلاح المؤسسات، توفر إطاراً متكاملاً ومرناً يتيح للسوريين المضي قدماً نحو المستقبل دون التنكر للماضي المؤلم أو الانغماس الكامل فيه. إنها تقدم مقاربة متوازنة وعملية تعترف بحق الضحايا الأصيل في العدالة والإنصاف، وتضع حداً لثقافة الإفلات من العقاب المتجذرة، وتمهد الطريق للمصالحة الوطنية الحقيقية القائمة على الاعتراف الصريح بالحقيقة، وليس على طمسها أو تجاهلها.

نوجه دعوة صريحة وعاجلة وملحة إلى السلطات السورية الانتقالية للتحرك الفوري والجاد في هذا المسار الحيوي. إن نافذة الفرصة التاريخية المتاحة لإرساء أسس متينة للعدالة الانتقالية ضيقة للغاية، ولا تحتمل التأجيل أو التسويف. ندعوكم بكل إخلاص للاستجابة العاجلة لتطلعات ملايين السوريين الذين عانوا ويلات الظلم والانتهاكات الجسيمة، وللتعامل بمسؤولية تاريخية مع الإرث الثقيل للنزاع. إن استثمار الموارد والجهود في مسار العدالة الانتقالية لا يمثل أبداً رفاهية يمكن تأجيلها، بل هو شرط أساسي وجوهري لبناء دولة مستقرة وديمقراطية تقوم على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية.

إن سوريا تقف اليوم أمام فرصة تاريخية نادرة لكسر دورة العنف والظلم التي استمرت لعقود طويلة. إن اختيار مسار العدالة الانتقالية المدروس والمتوازن والشامل يمثل فرصة فريدة لا تعوض لبناء سوريا جديدة ومختلفة، ليس فقط من خلال إعادة بناء ما دمرته الحرب من حجر وبنيان مادي، بل الأهم والأعمق، من خلال معالجة الجروح النفسية العميقة التي تركها النزاع المرير في النفوس والمجتمع. إن هذه اللحظة التاريخية الفارقة تتطلب شجاعة استثنائية وحكمة بالغة وبصيرة نافذة، لتحويل المحنة الوطنية القاسية إلى فرصة حقيقية للتعافي الشامل والمصالحة الوطنية وبناء مستقبل أفضل وأكثر عدلاً لجميع السوريين دون استثناء.

لنجعل من العدالة الانتقالية جسراً متيناً نعبر به من ظلمات الماضي المؤلم إلى نور المستقبل الواعد، ومن مرارة الصراع الدامي إلى السلام المستدام، ومن تشظي الهوية الوطنية إلى وحدة الوطن وتماسكه. هذه هي الرسالة الأساسية التي نوجهها بكل إخلاص إلى صناع القرار في سوريا الجديدة: لقد آن الأوان لسوريا العريقة أن تتعافى وتنهض بقوة من رمادها، ولن يتحقق هذا التعافي الحقيقي والشامل إلا إذا كان متكاملاً في أبعاده كافة – جسداً وروحاً، أرضاً وإنساناً، حاضراً ومستقبلاً.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى