
من التنظير إلى التهميش: أزمة النخب الديموقراطية بعد سقوط الأسد
لم تحظ انطلاقة الثورة (آذار 2011) بمواكبة حزبية ذات أثر فاعل بسبب حالة الاستنزاف البشري والتنظيمي لأحزاب المعارضة التقليدية التي نكّل بها نظام الأسد طيلة عقود مضت، ولكن شهدنا حراكاً ثقافياً وسياسياً موازياً لحركة التظاهرات لناشطين سوريين سواءٌ عبر وسائل الإعلام المرئية أو المقروءة أو على وسائل التواصل الاجتماعي، وواضحٌ ان هذا النشاط كان يهدف إلى أن يكون خطاباً حاضناً لانتفاضة السوريين ومعبّراً عن تطلعاتها، إلّا أنه – باستثناء بعض الأصوات – ظل خطاباً موازياً للحراك، من جهة أنه كان يجسّد قناعات وتصوّرات أصحابه أكثر مما يجسّد واقع الحراك بتنوّعه واتجاهاته.
بنهاية العام 2012 وموازاةً مع انحسار موجات التظاهر وانزياح الحراك الشعبي باتجاه المقاومة المسلحة، شهد نشاط القوى ( الديموقراطية العلمانية) تحوّلاً واضحاً من خلال انكفاء العديد من المثقفين العلمانيين، إذ منهم من اتجه نحو منظمات المجتمع المدني، ومنهم من راح ينعي الثورة باعتبارها باتت رهينة القوى المسلّحة، فيما استمر آخرون بالتنظير ولكن حول قضايا تخص مستقبل الدولة السورية فضلاً عن قضايا ذات صلة بعلاقة الدين بالدولة وتمكين المرأة وضرورة تعزيز مفهوم (العلمانية) كشرط لقيام الدولة الحديثة إلخ. وقد عزا الكثير منهم هذا التحول لجملة من الأسباب:
1 – سيطرة السلاح والعسكر على المشهد العام.
2 – تغوّل الفصائل والقوى الإسلامية المتطرفة وتحكّمها في مفاصل الحراك الثوري.
3 – التدخل الدولي الذي أفضى إلى تقسيم الجغرافيا السورية إلى مناطق نفوذ وسلطات أمر واقع.
مع نهاية شهر أيلول / سبتمبر من العام 2015 وتدخّل روسيا عسكرياً للحيلولة دون سقوط الأسد، ومن ثم سقوط حلب بيد قوات النظام، بدأت القضية السورية تشهد تحوّلاً كبيراً، لعل من أبرز معالمه التأسيس لمسار (أستانا) في سياق تفاهمات دولية جديدة بين روسيا وتركيا وإيران، أما على المستوى الداخلي فقد بدأ يتلاشى القرار الوطني السوري من خلال تراجع دور الكيانات الرسمية للمعارضة السورية وتحوّله إلى دور وظيفي لصالح الدول الراعية لتلك الكيانات، موازاة مع انصياع مجمل الفصائل العسكرية لقرار الدولة التركية. ونتيجة هذا المنحدر السياسي والعسكري لقوى المعارضة شهدت البلاد السورية أكبر موجة من الهجرة أو اللجوء تجاه أوربا وبلدان أخرى، وبهذا أصبحت بلدان اللجوء هي الفضاء الذي ينشط فيه السوريون الذين بادر كثير منهم إلى تشكيل أطر سياسية (أحزاب – تيارات – تجمعات) كما بادر كثيرون إلى إقامة ندوات ومحاضرات، وبالمجمل بدأت النخب ( الديموقراطية العلمانية) بتكثيف أنشطتها في محاولة لبلورة تيار ديمقراطي سوري يمثل ثورة السوريين، وخاصة أن الحاجة إلى وجود هكذا تيار بدت مُلحّة لأسباب عديدة، لعل أهمها إخفاق الكيانات الرسمية للمعارضة في تحقيق أي منجز يوازي تضحيات السوريين، فضلاً عن ارتهانها لأطراف دولية، وكذلك نتيجة هيمنة قوى التطرف الإسلامي على مساحات من الجغرافية السورية، إذ رأى الكثيرون حينها أن الردّ الأمثل على الواقع المظلم هو ظهور كيان سياسي وطني ديمقراطي يمثل التطلعات الحقيقية للسوريين، تلك التطلعات المتمثلة باستعادة الحقوق والحريات وتعزيز مبدأ الديموقراطية والمواطنة، إذ من شأن هكذا تيار (لو وُجد ) أن يستعيد المبادرة الثورية من جديد ويعيد الوجه الحقيقي للثورة، وفي سياق هذا التوجّه جرت الكثير من المحاولات المتمثلة بحوارات بين الشخصيات والأحزاب الناشئة والتجمعات ذات الرؤى والتصورات المتشابهة، وتم الإعلان عن اكثر من تحالف وتجمع، إلّا أن معظم تلك المحاولات والمساعي لم تتكلل بتبلور كيان سياسي ديمقراطي علماني وازن، إذ على الرغم من تشابه طروحات وتصورات تلك القوى التي تتماثل إلى درجة التماهي، إلّا انها على المستوى التنظيمي كانت تنتهي إلى الفشل، ليعود كلٌّ إلى مكانه. ويمكن الذهاب إلى أن جميع القوى والمجموعات والأحزاب العلمانية، وخلال الفترة الممتدة من العام 2015 وحتى سقوط نظام الأسد، قد انحصر نشاطها في مسارين اثنين:
يتمثل الأول في انهماكها في التنظير لسوريا التي تتخيلها وليس سوريا كما هي بطبيعة شعبها وتنوعها، وهي في صنيعها هذا كمن يطالب بدولة (قص وتفصيل) وفقاً لتوجهاته الإيديولوجية دون أدنى مقاربة للواقع السوري بكل تنوعاته وانتماءات سكانه، ولعل هذا ما جعل خطابها يتسم بالكثير من الاستعلاء ومجافاة الواقع. ويتمثل المسار الثاني باكتفائها – على المستوى السياسي – بترديد اللازمة التي أُفرغت من محتواها: (نطالب المجتمع الدولي بتطبيق القرار 2254)، وكأن الحل السياسي سيأتي محمولاً بحقيبة ووفقاً للوصفة التي حدّدتها (النخب السورية). ولعل الأهم من ذلك أن هذه النخب المتمثلة بالقوى والأحزاب قلّما حاولت مقاربة المعضلة الكبرى للسوريين: (كيف يمكن إزالة نظام الأسد) حتى نتمكّن لاحقاً من إشادة الدولة السورية التي نريد، بل وجدت نفسها في حلّ من هذه المقاربة، بذريعة أن مصير النظام بات بيد الكبرى ولا قِبَلَ لنا بهذه المسألة.
بقدر ما كان يوم الثامن من كانون الأول الماضي يوماً تاريخياً بالنسبة إلى الغالبية العظمى من السوريين، إلّا أنه كان باعثاً على المزيد من القلق والذهول بالنسبة إلى الأطراف (العلمانية – الديموقراطية)، ذلك أن الذي أطاح بنظام الإجرام الأسدي هي (هيئة تحرير الشام – النصرة سابقاً) والمصنّفة على لوائح الإرهاب، وهي الخصم الإيديولوجي والسياسي للعلمانيين الديمقراطيين، إلّا أن المُنجز العسكري والسياسي الذي حققته يتقاطع مع تطلعات غالبية السوريين الذين وجدوا في الإطاحة بنظام الأسد صنيعاً عظيماً طالما ضحّوا من أجله بأعظم التضحيات، وحيال ذلك، لم تجد العديد من القوى والشخصيات العلمانية حرجاً في تفسير ما حصل باعتباره ترجمة لموقف دولي جديد تقتضي مصالحه الإطاحة بنظام الأسد، وما الدور الذي قامت به هيئة تحرير الشام سوى تنفيذ للإرادات الدولية وفقاً لأصحاب هذا الرأي، فيما تريّث آخرون من هؤلاء، ووجدوا في المراهنة على فشل القيادة الجديدة للبلاد المخرجَ الأمثل، لكي لا يضعوا أنفسهم بموقف المناهض للتغيير.
بعض مضي أقل من خمسة أشهر على سقوط الأسد، وفيما تواجه السلطة الجديدة صعوبات هائلة في التعاطي مع الإرث الكارثي لنظام الأسد، فضلاً عما ترتكبه من أخطاء تنمّ عن ندرة الخبرة حيناً وقلّة الإمكانيات حيناً آخر، ينهض (الديمقراطيون – العلمانيون) من جديد ولينهمكوا من جديد في عملية (القص والتفصيل) للدولة التي يريدون، ولكنّ ثمة أموراً ثلاثة ما تزال بعيدةً عن الأذهان:
اولاً – الرهان على فشل الخصم ربما يلبي حاجة نفسية فحسب، وما لم يكن لديك المشروع البديل الذي تقدّمه للناس فيبقى الرهان على الفشل أشبه بسلاح المفلسين، فالذي أخفق – طيلة أكثر من عقد من الزمن – في تشكيل حزب سياسي أو أي إطار تنظيمي يؤطّر عمله، فهل لديه ما يمكن أن يكون حوامل تنهض عليها دولة؟.
ثانياً – مهما كان النقد المُوجّه للسلطة مُحقّا وصحيحاً، إلّا أن فاعليته تبقى محدودة طالما كان منبثقاً من أبراج عاجية ترى ذاتها متجاوزةً لوعي الجمهور العام ولا تجد حرجاً في أحقيتها بالتعالي الدائم على تطلعات المواطنين.
ثالثا: لم تشهد أي تجربة تحرّرية في العالم أن قيم الحداثة كالديموقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان، قد تحققت بوصفة سحرية أو بمجرد طرحها كشعار عن بعد، بل تكتسي قيمتها الجوهرية وتحقّقها الفعلي حين تتمكّن القوى أو الفاعلون السياسيون من تحويل قيم الحداثة (ديموقراطية وحقوق وعلمانية إلخ) إلى مطلب حقيقي للمواطنين على العموم، وهذا يستدعي التخلّي عن مفهوم التمايز والنرجسية المعرفية والتعالي على الوعي العام، كما يستدعي مقاربات جدّية للواقع كما هو وليس كما نريد أو نتخيل.
المصدر: 963