مسؤولية الدولة ومجلس الإفتاء الأعلى في سورية

سوسن جميل حسن

“في هذه المقبرة، هناك عائلاتٌ بأكملها أهلكتها الكراهية”… يقول حفار القبور العجوز في مقبرة الفردوس في حمص، حيث دفن خمسة أفراد من عائلة منصور بعد العثور عليهم موتى في مشرحة مستشفى الوعر في 4 إبريل/ نيسان. “لقد قتلوا برصاصة في الرأس. لم نكن نريد للأمهات أن يرينهم”، كما يقول أحدهم لصحافي نشر مقالته في صحيفة لوموند الفرنسية في 18/04/2025، وهو ينفجر في البكاء، يرفض الكشف عن اسمه: “ربما سأكون التالي، كما تعلم”. ربما صار اليوم كل واحد من الطائفة التي تُرتكب بحقها المجازر، والخطف، خاصة لنسائها، والتهجير والاستيلاء على بيوتها وأملاكها وقراها، يشعر أنه التالي في مسلسل العنف والقتل المبنيين على الكراهية بلا حدود.

لقد دفعت الأكثرية السنّية (يا لخجلنا ونحن نكتب بهذه الطريقة) ثمناً باهظاً 14عاماً من القتل والتهجير والتنكيل من النظام وحلفائه، فمناطقها هي التي ثارت في وجهه بالدرجة الأولى. هذه حقيقة ليس مُجدياً نكرانها، بل لا تصبّ في مصلحة أي شريحة من شرائح الشعب السوري، ولا في مصلحة المضي في طريق بناء سورية التي نحلم بها على أسسٍ سليمة. لكن أن يعاد المشهد كما لو أن عقداً ونصف عقد من المحرقة السورية لم يقعا، أو أن الانهيار المدوّي الذي أصاب الدولة والمجتمع لم يكون أكثر من كابوس في لحظة نوم، أو مشهداً في فيلم رعب، فهذا في غاية الخطورة بالنسبة لسورية وشعبها، ويحتاج وضعه أولوية عظمى في هذه اللحظة، تقوم السلطة الحاكمة بتدبيره بمنتهى الحكمة والوعي والوطنية، لأن السلم الأهلي، والأمان، ولملمة شتات الشعب السوري الممزّق، بكل مكوّناته التي كانت أهم عوامل ثرائه ومسيرته الحضارية، أمر تطلبه المرحلة، وليس الولايات المتحدة التي أدرجته في قائمة شروطها للإدارة الحالية لرفع العقوبات، فمن الواضح أن رفعها لن يتحقق من دون هذه المطالب “الضرورية”، كذلك رؤوس الأموال لن تغامر وتتدفق إلى سورية من أجل إعادة الإعمار والاستثمار ما لم تتحقّق هذه البيئة الآمنة.

إذا كانت السلطة الحالية تردّد دائماً حرصها على وحدة الأراضي السورية، وسيادة الشعب على أرضه كاملة، فما هو ردّها اليوم أمام فظائع تُرتكب بحق مكوناتٍ في الشعب السوري، وليس بحقّ الطائفة العلوية فحسب، منذ بدأت عمليات التنكيل بأفرادها والقتل على الهوية، بطريقة وصفتها السلطة في دمشق بعمليات فردية لا تشكل ظاهرة، هذا قبل المجازر المروّعة في 6 و7 مارس/ آذار الماضي، وما زالت مستمرّة بأشكال متنوعة؟

لقد أصدر رئيس الجمهورية أحمد الشرع قراراً في 28 مارس/ آذار، “قرار رئيس الجمهورية رقم 8 تاريخ 2025″، يقضي بتشكيل مجلس إفتاء أعلى برئاسة الشيخ أسامة الرفاعي، وعضوية 14 شيخاً، جاء في المادة الثانية منه في البند الأول: إصدار الفتاوى في المستجدات والنوازل والمسائل العامة. وفي البند الثاني: بيان الحكم الشرعي في القضايا التي تُحال إليه.

فهل هناك ما هو أكثر ضرورة وإلحاحاً من إصدار فتوى تحرّم الدم السوري، وقتل السوري السوري، وإدانة ثم عقوبة كل من يدعو إلى الكراهية أو التفرقة والفتنة، وزعزعة السلم الأهلي، ما دام الجميع أخوة في الإنسانية، وشركاء في العيش على أرض الوطن؟ ما الذي نكون قد جنيناه، نحن الشعب السوري، الذي ثار على نظام مجرم، هو من استثمر في التفرقة على أساسٍ طائفي، وعزّز السرديات القديمة التي يسعى كل عاقل ومؤمن إلى تفنيدها وجعلها من الماضي الذي يجب تجاوزه؟

ما زالت سورية بحاجة ماسّة إلى الإنعاش وفق ظروف العناية المكثفة وشروطها

ما وقع، وما زال يقع من أعمال انتقامية دافعها الكراهية المفرطة والثأرية والتعصب الديني والطائفي، يحتاج موقفاً عاقلاً وحازماً من السلطة في دمشق، بدافع وطني وأخلاقي وبراغماتي أيضاً، وينتظر منها الشعب، بغالبيته، أن تجترح القوانين الصارمة التي تجرّم خطاب الكراهية وسلوك الانتقام والثأرية وكل أعمال العنف تحت هذا الدافع، وتطبيقه بكل نزاهة، بالتوازي مع الشروع بمحاكمات العدالة الانتقالية التي تعزّز شعور الضحايا بكرامتهم وأن حقوقهم لم تنتهك. يحتاج هذا أيضاً إلى موقف واضح وفتوى من مجلس الإفتاء، ما دام الدين يعدّ حاجة لدى غالبية الشعب، ومتأصّلاً في ضمير هذه الغالبية، وكان الملاذ الأكبر في سنوات الزلزال السوري، الملاذ الذي لجأ إليه السوريون أمام آلة التوحّش التابعة للنظام البائد.

الدين مرجعية عليا لدى غالبية الشعب، من المفترض أن تبقى مستقلّة نزيهة من لوثة السياسة والاستقطاب، وأن تبقى أيضاً منارة تهدي إلى مكارم الأخلاق، وتقود المؤمنين في دروب العلاقة مع الخالق، ودرب الحق والقيم والعدالة والإنسانية، لا أن تنأى بنفسها عن واجبها أمام “المستجدّات والنوازل والمسائل العامة”، فهل هناك أمر جلل أكثر مما يقع في سورية من مجازر بحق العلويين، واليوم هذه المواجهات والخطاب التحريضي بحقّ طائفة الموحدين الدروز؟

هذا الانفجار بسبب التوتر الطائفي بين مكونات الشعب السوري سيبقى قنابل موقوتة إذا لم تجر معالجته من جذوره، ولن تستطيع سورية النهوض، مهما كان شكل الدولة المرجوّة، فكيف إذا كانت السلطة في دمشق تهرُب من التلفظ بكلمة “ديمقراطية”، وتُصدر بياناتٍ بصيغ ضبابية حول هذه الأمور الجسام التي تقع وتهدّد الحاضر والمستقبل؟

الكرة في ملعب “الأكثرية” في سورية، هذه الأكثرية التي لا ترضى في “أكثريتها” بما يحصل من نعراتٍ طائفيةٍ انتقاميةٍ

إنه واقع محزن، مريع، مخجل، ومحبط بعد كل التضحيات التي قدّمها الشعب السوري على مذبح الحرية والكرامة. ما زالت سورية بحاجة ماسّة إلى الإنعاش وفق ظروف العناية المكثفة وشروطها. هذا لن يُضبط، باعتباره خطوة أولى في طريق الإنعاش، من دون حصر القوة والقانون في يد الدولة، ومن دون أن تكون الدولة مؤهلة بالفعل للقيام بهذا الدور بكل موضوعية وحيادية، ولا تكفي الشعارات والخطابات النظرية حول التمسّك بوحدة التراب السوري، والسيادة السورية، لأن الأمور إذا ما استمرّت على هذا النهج الانتقامي العنيف، فلن تسمح لهذه الوحدة المرتجاة أن تتحقّق، وسوف يكون التقسيم الذي يتبجّح كثيرون باستنكارهم إياه واقعًا لا محالة، وغالباً، لن تكون هناك سيادة مستقلة على الأجزاء التي ستكون عليها سورية بعد التقسيم.

سيقع التقسيم، على الأرجح، إذا ما استمرّ الحال على حاله، وأرى أن لا أحد بإمكانه أن يلوم الضحية إذا ما وقع مثل هذا الأمر الذي لا ترغب به غالبية الشعب السوري، على الرغم من أن الخطاب ينذر “الأقليات” ويهدّدها بأنها المسؤولة إذا ما وقع التقسيم. وما دام هذا هو الخطاب الدارج، ولا مجال لسماع أو فهم خطاب خارج هذا التصنيف “أقليات/ أكثرية”، فإن الكرة في ملعب “الأكثرية” في سورية، هذه الأكثرية التي لا ترضى في “أكثريتها” بما يحصل من نعراتٍ طائفيةٍ انتقاميةٍ، وفرض قوة اللون الواحد وسيطرته على شعب عاش منذ القدم بألوانه المتعددة التي كانت أهم أسباب ازدهاره ونموّه.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى