…ولكن ما هو المجتمع الدولي الذي يحتفل به السياديون؟

دلال البزري

الذين يطلقون على أنفسهم لقب “السياديين” يعتمدون على سخط اللبنانيين ضدّ حزب الله وحروبه العبثية وتخريبه لبنان. وهم على حقّ في ذلك كلّه، ويلاقون شعبيةً بين من بقي من اللبنانيين على درجة من النَفَس السياسي. في معركتهم ضدّ هذا الحزب، يطلق السياديون شعاراً “إنقاذياً”، قوامه اللجوء الى المجتمع الدولي لحماية لبنان. بكلمات أخرى، بعدما دعم هذا المجتمع الدولي إسرائيل في عملية “تحريرنا” من حزب الله و”الاحتلال الإيراني”، أصبحنا دولةً ذات سيادة، حرّة بتوجّهاتها، مدعومةً من المجتمع الدولي. ألسنة السياديين الواثقة تنفخ صدرها بالمجتمع الدولي، ويضيق صبرها بمن تبقّى من حزب الله؛ ولا يفهمون لماذا لا يعترفون (الحزب وبيئته) بأن الحزب انتهى، وعليه تسليم سلاحه فوراً، وإلا فليكن مفهوماً أن لا إعادة إعمار للجنوب والضاحية… إلخ. وإذا اعترضهم حماة حزب الله، وقالوا لهم كيف ننزع السلاح وإسرائيل ما زالت محتلّةً هذا الجبل (الشيخ) والنقاط الخمس، أو السبع، وتستحدث الآن موقعاً جديداً في العديْسة، وما زالت تقتل في القريب والبعيد من الحدود الجنوبية، ونيرانها تطاول الأعماق، فلا شيء على الإطلاق يردعها عن المزيد، فيما لجنة مراقبة وقف النار، التي يرأسها الجنرال الأميركي جاسبر جيفرز، لم يصدر عنها أيُّ تقرير جدّي؟… الجواب لدى السياديين، قولاً وكتابةً وظهوراً تلفزيونياً أو “تيكتوكياً”، بكلمات روتينية، مفتاحها الدبلوماسية؛ بالدبلوماسية سوف يتحرّر لبنان ويُبنى من جديد، بالدبلوماسية ستنسحب إسرائيل، بالدبلوماسية سنكون على مقربة من الاستقرار… ومحاسن الدبلوماسية، والتجارب السابقة في بلدان أخرى التي أحرزت الدبلوماسية فيها كذا وكيت من الإنجازات… وبعد أن يتبيّن أن الدبلوماسية لم تردع إسرائيل، لم ترغمها على الانسحاب رغم المناشدات شبه اليومية لرجال العهد الجديد، تجد سياديين متحمّسين، مثل وزير الدفاع اللبناني، ميشال منسّى، يبادر فيقترح سلاحاً جديداً في “الاستراتيجية الدفاعية تجاه إسرائيل”، ويدعو العهد الجديد إلى اعتماده. إنه سلاح البريستيج (الهيبة). إليكَ كلامه: “بريستيج الجيش يكفي لردع إسرائيل؛ لأنّ عدوّنا سريع التأثّر بوهج الهيبة”. إذاً لبنان الآن، مدعوم من المجتمع الدولي، الذي بدوره يدعم الدبلوماسية “التحريرية”، وعليه أن يطمئن. ولكن، من هو هذا المجتمع الدولي؟

المجتمع الدولي ليس مثلاً الهند ولا جنوب أفريقيا ولا البرازيل ولا الصين ولا روسيا، فرادى أو مجتمعين. قبل صعود ترامب ثانيةً إلى السلطة، كان في عرفنا وتقاليدنا أن المجتمع الدولي هو الغرب الأوروبي والولايات المتحدة، زائدا كندا واليابان وأستراليا. أمّا بعد صعود ترامب، وإطلاقه السريع للمراسيم التي تقطع مع الغرب الأوروبي، وتضعه في زاوية خاصّة به، فيما الدول الثلاث الأخرى، كندا واليابان وأستراليا، تأخذ، كلٌ على طريقتها، قرارات سيادية حقيقية، تشبه بداية الانفصال عن أميركا، أو على الأقلّ انسلاخها عمّا يسمّى “المجتمع الدولي” بقيادة أميركا السابقة… بعد صعوده صار “المجتمع الدولي” لا يتمثّل فعلياً إلا في أميركا ترامب.

ما تريده أورتاغوس من لبنان ليس ما يريده المجتمع الدولي، إنما أصبح يُختصر في ترامب، وفي ما يريده ترامب عبر أورتاغوس

في لبنان، الدولة التي أنشأتها “الأم الحنون” فرنسا، يكاد الفرنسيون ييأسون من إمكانية أن يكون لهم دور بتحديد مصيره. زيارات ماكرون الاحتفالية الى لبنان، زيارات مبعوثه الخاصّ، إيف لودريان، المكوكية، لم تسفر عن أيّ حصّة لهم رغم دخولهم في مشاريع الصفقات. فعبثاً يحاولون. السيدة مورغان أورتاغوس، مبعوثة ترامب لا تترك لهم المجال، وهي مثل غيرها من المعيَّنين في إدارته، قوتها في “وفائها له”، أي بنقل رغباته وطبائعه، كما يصوغها هو من دون أيّ تعديل. فما تريده أورتاغوس من لبنان، ليس ما يريده المجتمع الدولي الذي كبرنا عليه، ويشمل المعسكر الغربي “المتماسك”، إنما أصبح يُختصر في ترامب، وفي ما يريده ترامب عبر أورتاغوس، ليس نزع سلاح حزب الله فقط، وبسرعة، بوضع جدول زمني واضح لنزع هذا السلاح، بأيّ ثمن، بل أيضاً أن يقوم العهد الجديد بخطوات “الإصلاح والشفافية والحوكمة ومكافحة الفساد”، مرفقاً بمفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل بشأن ترسيم الحدود. ولا مفاجأة طبعاً أن يغيب من هذه المطالب الأميركية أيُّ بند أو شرط على إسرائيل، بالانسحاب من لبنان مثلاً، أو الكفّ عن خرق سيادته جوّاً وبرّاً وبحراً. وبخصوص إعادة الإعمار، شروط أورتاغوس واضحة، حسب ما تسرّب منها، لن تموّل أميركا إعادة الإعمار إلا بعد الانتشار “الفعلي للجيش في جميع مناطق جنوب الليطاني”، وبـ”إشراف أميركا”، أي إشراف إسرائيلي غير مباشر عبر الأميركي، على كلّ مفاصل وهيئات تخصّ إعادة الإعمار، من دفاتر شروط ولوائح الشركات المؤهلة للمناقصات ولجان استلام وفض العروض ولجان إشراف على التنفيذ… إلخ. بمعنى آخر، ستكون أميركا هنا، في تفاصيل التفاصيل التي لم تدخل إليها طهران في عزّ هيمنة حزب الله على لبنان. وعندما نقول أميركا، نعني دونالد ترامب، المعادي بصراحة لكلّ “الضعفاء”، منهم لبنان. أما شروطه الأخرى، من إصلاح وحوكمة وشفافية، فكيف لنا أن نثق بجدّيتها، فيما هو رئيسٌ فاسد، من حيث تكوينه ومساره وانتصاراته؟

في مرّات قليلة نعمنا فيها بهدنة بعد اتفاق، كان لبنان غنيمةً، مرّة لصالح حافظ الأسد، وأخرى لصالح خامنئي

جزء متبقٍ من المجتمع الدولي، وهو جزء حيوي، من دونه لا معنى لأيّ إصلاح أو إعادة إعمار أو كهرباء. نعني البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. الأول (البنك الدولي) مموّله الأساس هو الولايات المتحدة، رئيسه دائماً من الجنسية الأميركية، توجّهاته أميركية، بمشاركة اليابان وألمانيا وإنكلترا وفرنسا. وكذلك صندوق النقد، وإن كانت رئيسته بلغارية، ولكنّه مثل البنك يقع تحت السيطرة الأميركية المباشرة مع شركاء أصبحوا الآن خصوماً. فبعد مجيء ترامب، تعرّض كلاهما لضغوط حاولا تجنّبها، وشعرا بأن القواعد التي قامت عليها مؤسّساتهما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قد تنهار أمام أعينهما (كما يصف أحد الكتّاب). والمعركة لم تنتهِ بعد. والقرض الذي ناله لبنان من البنك الدولي، لدعم إعادة الكهرباء إلى لبنان، الذي “لن يفعّل قبل…” أن نلبي شرط الخضوع التام لإسرائيل، الذي جرى توقيعه في واشنطن بوجود مورغان أورتاغوس ومباركتها، ونظرات الرضا بعينها، واحمرار وجه الوزير اللبناني من هذا الرضا. وهو يوقّع القرض المشروط بكذا شرط ثقيل، أصلاً، ما الذي يضمن أن ترامب سينفّذه، أو أنه لن يضيف إليه بنوداً قهريةً أخرى، أو أنه سينفّذه من دون ابتزاز، أو يغيّر رأيه به، كما غيّره مع أعدائه وحلفائه السابقين؟

حماسة سياديّي لبنان لما يفهمونه أنه “تحرير” من قبضة حزب الله، ومعاندة حزب الله للإبقاء على هذه القبضة، طريقان متوازيان من الأوهام والآلام الطويلة. في المرّات القليلة التي نعمنا فيها بالهدنة، نتيجة “اتفاق” بين الأطراف، كان لبنان غنيمةً لصفقاته، مرّة لصالح دمشق حافظ الأسد، وأخرى لصالح طهران علي خامنئي. وقتها، لم تكن طريق الأوهام والآلام أقصر من تلك التي يعدنا بها المجتمع الدولي بقيادة ترامب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى