عن الكتابة ولامعقولية الناس والأحداث

عبدالحكيم حيدر

مهما كان في الكتابة من قشرة عنيفة، أو كئيبة، أو قاسية، أو حتى قشرة خارج النسق العام المنظم والمؤدّب والأبوي، إلا أنها في النهاية من كلّ أمر، إنسانية جدّاً بكلّ ما فيها، وتدور في فلك ما هو إنساني حيث الفقد أو الموت، أو الرحيل، أو الهجرة، أو الخسران، أو الخيانة الإنسانية أو النكران.

تظلّ الكتابة هي تلك العين التي تتأمّل الطلل، أيّ طلل، طلل حبّ أو طلل أحداث جسام أو طلل حروب جائرة على أناس بسطاء ما كان لهم من ذنب سوى أنهم دخلوا التجربة حماية لأعراضهم أو ذكرياتهم أو كرامتهم، أو لأجساد ألفوها، كنخلة أو شجرة أو بيت، والبيت أيضاً وطن، كالذكرى تماماً.

تدافع الكتابة عن ذلك الطلل الذي يسكننا، حتى وإن ظلّت أصداء سرديته فينا تحرّكنا وتدفعنا إلى الحياة به ومعه. نحن بالكتابة نلتقط أنفاسنا الأخرى بعيداً من كاميرات المصوّرين والغرف المغلقة على الخديعة، نلتقط هواء حرية أرواحنا ونُعلي من قيمة الطلل، حتى وإن كان مجرّد ذكرى أو طيف أو قصّة جانبية لشيء عابر أو مهمل أو مُهان، طلل هناك للأحداث والناس والبلدان، أو بقايا الأنهار، والحكايات الغامضة، والصداقات التي انهارت، وقصص الحبّ، والممالك التي تبعثرت أو قُسّمت، أو حتى ذابت أو اختفت تحت رمال الصحراوات، أو طمرت في بطون البحار أو بطون السفن، أي أنّ الكتابة هي قراءة أخرى لسردية المشهد الغائب من العين أو المشهد الذي يتحنّث للغياب.

ورغم ذلك، في الأحداث والناس والواقع نرى ماهو أغرب من الكتابة أيضاً، بل وأقسى، رغم كامل المكياج والضحكات والابتسامات والبروتوكولات ومشاريع البلدان والإعلام والغناء للوطن ووضع أطنان من الزهور على قبر الميت أو الجندي المجهول، وبذلك تعتبر الكتابة أقلّ غرابةً بكثير من أحوال وأهوال الزعماء وبسطاء الناس في هامشهم الأعمى، تحت سطوة الأحداث الزائفة في شاشات العرض وجدّية مباريات كرة القدم مع محلّلين وساسة وأرباع فلاسفة، يتحدّثون عن الوطن والشأن العام، أو أوضاع بلادهم وحروبهم القائمة، التي ستظلّ قائمةً حمايةً للوطن والعلم والتراب.

تظلّ الكتابة أكثر أنسنةً وحيويةً وبهاءً، حتى إن ظلّت حبيسةً داخل أرواحنا المهجورة والمطاردة والباحثة عن أوّل الخيط لها، كي تكتب طللها المخاتل فوق سطح ورقة بيضاء لا أكثر.

أتأمّل كثيراً ملامح بوتين الطافحة بالعزة أمام الكاميرات، وأتأمل أيضاً قمح أوكرانيا وهو يحترق، والملايين المهاجرة خوفاً من الحرب، أو غرقاً في البحار وراء طيف الهجرة أيضاً، أو حتى الهرب بعيداً ببقايا أجسادهم لا أكثر، وأتأمّل أيضاً كتابات محمد شكري في “الخبز الحافي”، حينما قصّ لحبيبته البسيطة شعرها طمعاً في محبّتها، أو علبة سجائر مهرّبة، أو ولّاعة جديدة، أو قبلة أو تجديد ذكرى، فألمس خفّة الإبداع ونبله، حتى وإن بدا قاسياً.

قسوة هؤلاء، أقلّ بكثير ممّا في أنياب الساسة والزعماء وسمت أنيابهم الزرقاء بدهاء المحافظة على كرامة الممالك، وأتأمل صانع العاهات في أدب نجيب محفوظ، أو لصوص المقابر بحثاً عن الأسنان الذهبية أو تجّار الحروب في الملابس والخردة وبقايا الأسلحة المستهلكة، أو لصوص التوابيت “شرق البحر” في دير العدرا بسمالوط بحثاً عن الخشب الرخيص كي يصبغوه في الموالد بالألوان والأصباغ، لصناعة لعب أطفال من مراجيح وأحصنة وجمال، بأسعار رخيصة في المولد، وأراهم بالإبداع أكثر رحمةً بكثير من طواويس الساسة وعصافيرهم الخضراء وفراشاتهم الساحرة في حدائقهم.

الكتابة تحارب القسوة التي فينا أو كتبت علينا من دون أن يكون لنا أيّ ذنب فيها، الذهب في ابتسامات بوتين هو بالطبع أكثر جمالاً أمام عيون الكاميرات من مزارع أوكرانيا قبل مواسم الحصاد، وصانع العاهات لا يحقّ له أن يقدّم الورد إلى قبر الجندي المجهول.. فقط، ترفرف الأعلام فوق أسوار مصانع الأسلحة، إلا أنه ورغم ذلك كلّه، يظلّ الإبداع، وتظلّ الكتابة هي تلك الشامة الجميلة في خدّ الإنسانية طيلة قرونها، حتى إن كانت الشامة في غير مكان حسنها، ويظلّ الورد المرمي في الساحات والطرقات والميادين المشهود لها بالكفاح والنصر أقلّ روعة بكثير من جمال راعي غنم يسوق غنماته وهو يغنّي لجدّته التي حمته وهو طفل فوق حوضين من النجيل بجوار ترعة صغيرة.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى