لا تدعموا فلسطين… رجاءً

حلمي الأسمر

كلما دّق الكوز بالجرّة يخرج هذا النظام العربي أو ذاك فيقول إن أحداً لم يقدّم لفلسطين ما قدّمه. ولأن فلسطين ناكرة للجميل وحقودة و”أكّالة نكّارة”، تقول لكم، كفّوا عن دعم فلسطين، فقد تسبّب هذا الدعم المغمّس بالمنّ والأذى بضياع أكثر من نصفها عام 1948، وما بقي منها عام 1967، واستمر هذا الدعم المبارك لفلسطين إلى أن وصل إلى حدّ تجريم كلّ من يقاوم من يحتلّها من المغضوب عليهم، وإلى حدّ الارتقاء في أحضانهم تحت عنوان “التطبيع” وتحقيق المصالح الوطنية العليا لهذا النظام أو ذاك. لقد شبعت فلسطين دعماً، وأتخمت بالنخوة العربية، حتى إنها باتت تدفع يومياً أرواحاً من خيرة أبنائها، حرقاً وقتلاً وتدميراً وخراباً. وهناك من يتبجّح بأنه الداعم الأكبر لفلسطين وهو عاجز، ليس عن تأمين رغيف خبز لجوعاها، بل إنه يمدّ عدوها بكلّ ما يلزمه للاستمرار في عدوانه المتوحّش. و”يا هيك بكون الدعم أو يا بلاش”.

حبذا لو انتهج المتباهون بدعم “الكظية” نهج من عبّر بصراحة عن حقيقة موقفه حين رفع شعار “فلسطين ليست قضيتي”، فقد أراح واستراح، وتبرّأ من هذا الطُّهر الذي لا يطيق أن ينام في فراش واحد مع نجاساته، حبّذا لو قال “الداعمون” مثلما قال، بدلاً من تصديع رؤوس الخلق بخطابات الدعم الجوفاء، والتباهي بتبنّي فلسطين وأهلها، كأنها بلد يتيم لا أهل له، يدور أبناؤها على أبواب المساجد يطلبون حسنة لله، من هذا النظام أو ذاك، وقد عرف اليوم أصغر طفل في أي مدرسة ابتدائية عربية أن من فرّط بفلسطين وباعها بالقطعة هم الأعلى صوتاً في سوق “دعم الكظية” من أبناء الأمّتَين العربية والإسلامية، ولا نبرّئ هنا شراذم ينتمون إلى فلسطين اسماً من أصحاب “المشروع الوطني الفلسطيني”، عاشوا على دمها كالعلق وهم يرفعون شعار النضال والنزال والقتال “السلمي” ومشاريع التسوية، حتى سوّوا كلّ ما لها من حقوق بالأرض، بل لم يبقَ أرض يقيم عليها أحد من أصحابها، غير حماة مشروعات الاستيطان والطرق الالتفافية.

تصيح فلسطين اليوم صيحة شاعرها: “إرحمونا من هذا الحبّ”، بعد أن بلغ بداعميها الغرام بعدوها أن فرشوا له السجّاد الأحمر

تصيح فلسطين اليوم صيحة شاعرها: “إرحمونا من هذا الحبّ”، بعد أن بلغ بداعميها الغرام بعدوها أن فرشوا له السجّاد الأحمر، وأعدّوا له الفراش الوثير في فنادقهم الفخمة ومنتجعاتهم الباذخة، ليرتاح من عناء قتل أطفالها وحرقهم، كي يعود بعد أخذ قسط من الراحة، ليمارس إجرامه وتوحّشه، متسلّحاً بمن حموا ظهره، ووفّروا له كلّ ما يريد من خدمات لوجستية، برّاً وبحراً وجوّاً، كي يستمرّ في تهويد الأرض ونهبها، وتشريد أهلها، وحتى تهجيرهم، ولم يزل “حماة فلسطين” يصرّون على رفع راية “التطبيع” و”الجوار الحسن” والالتزام بـ”معاهدات السلام” خياراً استراتيجياً (!)، رغم أن المغضوب عليهم لم يحترموا من وقّعها، ولا من تعاون معهم سرّاً وعلانية، بل إنهم يمعنون في فضح شركائهم، والتنكيل بهم، ويعلنون صباح مساء احتقارهم لهم.

ترجو فلسطين اليوم، ترجو كلّ من أعلن أنها “قضية العرب الأولى” أن ينسى هذه القضية، ويعلن براءته منها، جهاراً نهاراً، فقد شبع أبناؤها من “حبّ” وغرام الخطباء وأصحاب التصريحات الرنّانة، ومؤتمرات القمّة والقاعدة، وهي تقول لهم بملء الفم: “كفّيتوا ووفّيتوا” يا عرب، فلم يسلم جسد فلسطين من طعنة بخنجر، أو ضربة بسيف، أو رمية برمح، جاءتها ممّن أعلن حبّها، وتبجّح ليل نهار بتفانيه في تبنّيها، وحمل ملفّاتها في محافل العالم، داعياً لإغاثتها وإنصافها، أمّا في الأرض فلم يكن نصيبها إلا نصيب من صاح: أشبعتهم شتماً وفازوا بالإبل.

كفى حبّاً ودعماً يا عرب، هكذا تصيح فلسطين اليوم، فلم يبقَ بيت فيها لم يذق “حلاوة” الدعم. فلسطين تستحلفكم بالله جميعاً أن تتركوها لتقلّع شوكها بأيدي أبنائها، وتسألكم بالله ألا تأتوا على ذكرها في خطاباتكم وتصريحاتكم، وأن تتفرغوا لبناء أوطانكم، وإشباع رغبات شعوبكم، وإعطائهم حقوقهم التي سلبتموهم إيّاها بزعم انشغالكم بفلسطين وحروبها، فقد قدّمتم ما عليكم وزيادة، وحان الوقت لأن تتحلّلوا من هذا “القيد” المسمّى “فلسطين”، “اعتقوها” يا ناس من مشاعركم القومية الجيّاشة، وخلّصوها من هذا الحبّ القاتل، بل لا لوم عليكم إذا باشرتم بطرد أبنائها من بلادكم إلى بلادهم، فهم عبء عليكم، وعلى خطط التنمية في بلادكم، فقد استنزفوا مواردكم، وأكلوا خيراتكم، وشاركوا فقراءكم قوت يومهم، وحان الوقت للتخلّص منهم، فبلادهم أولى بهم، فقد تحمّلتموهم عقوداً طويلة، وحان الوقت للتحلّل من حمل مسؤولياتهم هم، وما جلبت عليكم فلسطينهم من مصائب وكوارث، وتبعات ثقيلة، عطّلت حياتكم ونغّصت عليكم.

باختصار، فلسطين ليست قضيتكم، ولن تكون، ولم تكن. فلفلسطين ربّ يحميها، وشعب يتوق للدفاع عنها بنفسه. فقط، ارفعوا عنها أيديكم وهي بألف خير.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى