
في الأزمنة الاستثنائية، لا يُنتظر أن تأتي الحقيقة عبر القنوات الرسمية أو المؤسسات الإعلامية التقليدية. في لحظات الثورات والحروب، غالباً ما يكون الناشطون الإعلاميون هم الأقدر على التقاط نبض الناس، ونقل معاناتهم ليعرف العالم حقيقة ما يجري.
قبل أيام أعدتُ نشر رأي مقتضب “بوست” كنت كتبته بدايات عام 2014، عن شجاعة الناشطين الإعلاميين السوريين، كانت حينذاك قد بدأت تطولهم بعض الانتقادات من صحفيين محترفين. في كتابتي تلك كنت منحازاً ومنتصراً لأولئك الأبطال الذين صوروا المظاهرات قرب رصاص قناصي الأسد، ووثقوا القصف وهم على بعد قذيفة كان من الممكن أن تسقط على رؤوسهم، وقد حدث هذا مع كثير منهم، وكلنا يعرف أسماء عشرات الشهداء من هؤلاء الناشطين الأوائل.
جاءتني بعض الملاحظات والانتقادات، والتي كانت تحاكم بعض هؤلاء بما آل إليه حالهم اليوم، وهي ملاحظات وانتقادات محقة، لكنها منزوعة من سياقها الزمني. وطبعاً كما كان رأيي تعميمياً، لم يتناول الاستثناءات السلبية في تلك الفترة، جاءت الملاحظات من الأصدقاء أيضاً تعميمية إلى حدٍّ ما، وأعتقد أن كلا الحالتين تجانبان الصواب.
عام 2014، وطبعاً منذ بدايات الثورة، كنت أتحدثُ عن أشخاص لم تخرِّجهم كليات الإعلام، ولم تمنحهم المؤسسات الكبرى شهادات اعتماد. إنما ظهروا فجأة من بين الناس العاديين. أفرزتهم الظروف، ليلعبوا بسبب شجاعتهم الاستثنائية، أدواراً حاسمة في توثيق الجرائم والانتهاكات، مساهمين في تكوين رأي عام دولي، إضافة إلى إلهام شعبهم أحياناً. ومع ذلك، فإن المسار الذي يسلكه الناشطون الإعلاميون ليس دائماً مستقيماً، فقد يزيغ بعضهم، وقد ينقلب بعضهم الآخر إلى أداة في يد قوى جديدة. وهذه الجدلية ليست حكراً على بلد دون آخر، فهي تجربة عالمية متكررة.
في سوريا عام 2011، كان المشهد الإعلامي خالياً تقريباً من التغطية المستقلة. الإعلام الرسمي كان مكرساً للرواية الحكومية الزائفة، بينما منعت السلطة دخول الصحفيين الأجانب إلى مناطق الاحتجاجات، ومن دخل منهم سرّاً بلا إذن كان محاصراً، ودفع الثمن حياته في بعض الحالات. في هذا الفراغ، ظهر جيل الناشطين الإعلاميين الذين حملوا الكاميرات والهواتف الذكية، ونقلوا إلى العالم صور المظاهرات السلمية، والهجمات الوحشية على المدنيين. وساهموا في نقل ما يحدث في الساحات إلى شاشات العالم.
هؤلاء الشبان لم يكونوا محترفين، ولكنهم تعلموا في الميدان. بعضهم دفع حياته ثمناً لهذه الرسالة. فهم لم يخضعوا لأي تدريبات مهنية لحمايتهم من القصف، وعموماً لم تكن شهاداتهم الأكاديمية، لو وجدت، لتقيهم من رصاص القناصة. مع ذلك، سجلت كاميراتهم ما تجاهله الإعلام العالمي بدايةً، وكانوا السبب الأهم في إدخال سوريا إلى صدارة نشرات الأخبار.
هؤلاء الشبان لم يكونوا محترفين، ولكنهم تعلموا في الميدان. بعضهم دفع حياته ثمناً لهذه الرسالة. فهم لم يخضعوا لأي تدريبات مهنية لحمايتهم من القصف، وعموماً لم تكن شهاداتهم الأكاديمية، لو وجدت، لتقيهم من رصاص القناصة. مع ذلك، سجلت كاميراتهم ما تجاهله الإعلام العالمي بدايةً، وكانوا السبب الأهم في إدخال سوريا إلى صدارة نشرات الأخبار.
في مدينتي، أكثر ما يحضرني الآن أسماء مثل باسل شحادة، الذي قُتل في أثناء توثيقه للقصف في حمص، وقحطان حسون، مصور فيلم “العودة إلى حمص”، ووئام بدرخان، التي صورت وساهمت في إخراج فيلم “ماء الفضة” خلال حصار المدينة القديمة، وكانت إحدى أبرز الأصوات النسائية الناقلة لمأساة الحصار. طبعاً إضافة إلى أسماء أخرى ما زالت حاضرة حتى الآن.
مهما كان موقفنا من بعضهم اليوم، علينا ألا ننسى أن هؤلاء “المواطنين الصحفيين” هم من سدّوا فجوة الإعلام التقليدي، فكانوا المصدر الصحفي الوحيد للمعلومات حتى بالنسبة لكبريات وكالات الأنباء الدولية. من قلب الحدث، نشروا المقاطع المصوّرة قبل أي وسيلة إعلامية. وثّقوا الجرائم ضد الإنسانية خلال المجازر التي ارتكبها نظام الأسد، وكان لهم الفضل في العديد من الحالات في تحريك الرأي العام.
هؤلاء هم من وفّروا المادة الأولية لصناعة العديد من الأفلام الوثائقية، وثبّتوا الرواية البديلة والحقيقية في مقاومةٍ كانت ناجحة، في حالات ليست بالقليلة، لرواية إعلام النظام، فمثّلوا وجهات نظر الضحايا والمجتمعات المهمشة. رغم ذلك، ومع هذه الأهمية، لا يمكن الإنكار أنه كانت هناك كثير من التحديات والمحاذير، أهمها عدم التحقق من صحة معلومات بعضهم بسبب الانحياز والمبالغة، وبسبب الضعف المهني أساساً.
بالطبع الظاهرة ليست محصورة بسوريا. فحين اندلعت الثورة في مصر واعتصم المتظاهرون في ساحة التحرير، لعب الناشطون الإعلاميون دوراً محورياً أيضاً. كنت حينئذ أتابع صفحة “كلنا خالد سعيد” على فيس بوك، فهي لم تكن بالنسبة لي مجرد أداة لدفع الشارع للمثابرة، بل منصة إعلامية بديلة، نشرت الصور ومقاطع الفيديو التي فندت الرواية الرسمية، وألهمت ملايين المصريين لمتابعة مسيرتهم حتى سقوط النظام.
في أوكرانيا، خلال انتفاضة “الميدان الأوروبي” في العاصمة كييف، نهاية عام 2013، كان للناشطين دور أساسي في توثيق القمع الوحشي للمتظاهرين السلميين. صور الهواتف المحمولة، ومقاطع الفيديو المباشرة كانت السلاح الأبرز بيد المحتجين في وجه آلة الإعلام الرسمي الموالية للكريملين. وفي إيران، خصوصاً خلال احتجاجات 2009 “الحركة الخضراء” وعام 2022 بعد مقتل مهسا أميني، حيث أصبح المواطن الصحفي هو المصدر الرئيسي للأخبار، رغم القمع الشديد وحجب الإنترنت. صور هاتفية متواضعة الجودة، لكنها غنية بالشجاعة والحقيقة وصلت عبر هؤلاء الناشطين المغمورين إلى العالم.
لكن لنعترف، أنه مع تطاول أمد النزاعات، تتغير الأدوار أحياناً. بعض الناشطين الإعلاميين السوريين، الذين بدؤوا مع الثورة بنقاء نادر، انخرطوا لاحقاً في مصالح ضيقة، أو اصطفوا مع قوى محلية جديدة. ظهر “إعلاميو الفصائل”، ومادحو سلطات الأمر الواقع الناشئة في الشمال السوري، ممن استبدلوا، في العديد من الحالات، الكلمة الحرة بالدعاية السياسية لهذا الفصيل أو ذاك. هذه الظاهرة أيضاً ليست سورية فقط. ففي مصر، تحول بعض ناشطي الإعلام إلى موظفين لدى منصات لديها أجندات خاصة، ليفقدوا تدريجياً صدقيَّتهم. وفي أوكرانيا، في مرحلة ما بعد الثورة، أصبح بعض الناشطين جزءاً من الحملات الحكومية الدعائية.
هنا يظهر التحدي الأخلاقي الأكبر، كيف يمكن للناشطين الإعلاميين أن يحافظوا على نزاهتهم عندما تتبدل السلطات، أو حين يتحول النضال من أجل الحرية إلى معركة نفوذ وصراعات مصالح؟ ينجح بعضهم في اجتياز هذا الامتحان وينجو، أو ينجرف مع مستجدات الأحداث ويصبح جزءاً من آلة المصالح، وفي كثير من الحالات يعود آخرون إلى البيت، مع كثير من الخيبة، ومخزون هائل من الذكريات التي تدعو للفخر.
باعتقادي، يجب أن لا يتوجه النقد لمجرد وجود هؤلاء على الأرض في مرحلة ما، وأجزم أننا في سوريا تخطّينا هذا الأمر. الخطأ ليس في ظاهرة الناشطين الإعلاميين بحد ذاتها. فالظروف الخاصة، تحتاج إليهم بشدة. ولكن المطلوب أن يتم العمل على تطوير مهاراتهم، وتدريبهم على معايير الصحافة المهنية، من دون انتزاع روح المغامرة والحماسة التي تميزهم عن “الإعلام الرسمي”.
توجد تجارب عالمية ناجحة في هذا المجال، فهناك كثير من المؤسسات الدولية المستقلة التي قامت بتدريب الناشطين حول العالم منذ التسعينيات، خصوصاً التدريبات على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان بشكل احترافي. وفي سوريا، ظهرت مبادرات محلية ودولية لتدريب الناشطين على تقنيات العمل الصحفي والسلامة، والتحقق من الأخبار، وأخلاقيات الصحافة والنشر، وكان بعضها ناجحاً مما حوّل بعض الناشطين إلى أسماء في عالم الاحتراف.
في النهاية، يجب أن لا يُنظَر إلى الناشطين الإعلاميين كخصوم للإعلاميين المحترفين، بل كشركاء، مؤقتين غالباً، في صناعة رواية الشعب، ثم كحاملي مشعل يجب أن يُصقل عبر التعليم والتجربة لا عبر التهشيم والسخرية. فمن السهل انتقادهم حين يخطئون، ولكن من الإنصاف أن نتذكر أنهم كانوا في لحظات الحقيقة الأكثر صعوبة، أول من تقدَّم الصفوف. ومع كل التحولات والانحرافات التي قد تصيب بعضهم، تبقى قصتهم قصة شجاعة فردية استثنائية ضد آلة القمع، خلال محاولتها التعتيم من أجل النسيان. ففي عالم يزداد فيه التحكم بالمعلومات وتزييفها، سنظل بحاجة إلى ذلك الناشط الإعلامي الذي يقف، بكاميرته المرتعشة وصوته المرتجف، شاهداً على الانتهاكات والظلم، وعلى لحظات انتزاع الحرّية.
المصدر: تلفزيون سوريا