صفقات شراء الشرعية من ترامب

ممدوح الشيخ

بعد قليل من بدء رئاسته، أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب “رجل الصفقات”، رشقات صاروخية سياسية واقتصادية في كل اتجاه، ضد الحلفاء والأعداء على السواء. ورجل الصفقات في رئاسته الثانية شغل العالم بصفقاته المستهدفة في العلاقات التجارية بين أميركا والعالم، بينما، في مسارٍ موازٍ تنضج، على نار هادئة حزمة صفقات سياسية للعالم العربي، منها نصيب كبير، وهي صفقات يشتري فيها ترامب النفوذ ويدفع ثمناً سياسياً: الشرعية أو رفع العقوبات. وعلى سبيل المثال، في حالة سورية تُظهر وثائق، أميركية وسورية وأممية ثمانية مطالب مقابل تخفيف العقوبات والاعتراف بالنظام الجديد، منها “إصدار إعلان رسمي عام يحظر جميع الفصائل الفلسطينية”، والسماح لأميركا باستهداف أي شخص تعتبره واشنطن تهديداً لأمنها، و”الحرس الثوري” الإيراني تنظيماً إرهابياً.

وكشفت وكالة الأنباء السويسرية عن خطوة اتخذتها الحكومة الصومالية لتحصل على صفقة من إدارة ترامب، بعد أن أخفقت سنواتٍ، اعتماداً على قوى إقليمية، في توحيد الدولة الصومالية، فقد قال الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود في رسالة إلى ترامب إن بلاده مستعدة لمنح سيطرة حصرية لأميركا على قواعد جوية وموانئ استراتيجية مقابل موقف أميركي رسمي يؤكد وحدة الدولة الصومالية. وتشهد الولايات المتحدة منذ سنوات عملًا دؤوبًا، يرجّح أن وراءه دولة عربية، للاعتراف بإقليم أرض الصومال غير المعترف به دوليّاً. وفي المقابل، يسعى إقليم أرض الصومال الانفصالي إلى طرح صفقته الخاصة. وفي المواجهة السياسية المصرية – الإثيوبية كان المحرّك صفقة عرضتها إثيوبيا على أرض الصومال، تحصل بمقتضاها إثيوبيا على وجود مدني – عسكري على البحر مقابل اعتراف إثيوبيا بالإقليم، وربما تسويقه أفريقيًّا.

وفي ليبيا، تحدُث مساومات شبيهة مع حكومتي طرابلس وبنغازي، وتبدو مصالح كثيرة، سياسية واقتصادية وعسكرية، مطروحة على الطاولة في بلد أنهكه الانقسام السياسي، وأصاب التجاهل الأميركي مشكلته كل شيء بجمود مزمن، فيما الفرقاء وحلفاؤهم الإقليميون يكتفون بإبقاء الوضع على ما هو عليه وتبادل المناكفات السياسة. وقد تطول قائمة صفقات مقايضة الشرعية، لاحقًا، لتشمل السودان الذي تمزّقه حرب أهلية بين الجيش وقوات الدعم السريع، ولا يستبعد أن صفقات ترامب قد مرت بالرباط لتعلن إدارة ترامب اعترافها بالخطة المغربية لحل مشكلة الصحراء.

أميركا الوجهة الأكثر احتمالًا لأيٍّ من أطراف “معارك تنازع الشرعية” في العالم العربي

والانقسام السياسي ظاهرة حذّر منها كاتب هذه السطور منذ سنوات (تنازع الشرعيات يجتاح الخريطة العربية، العربي الجديد، 1/10/2021). وفي الإطار العربي بالتحديد، فإن غياب الحد الأدنى من معنى: “النظام الإقليمي”، والحد الأدنى من التوافق العربي على القضايا التي تمسّ الأمن القومي، جعل هذه الجراح النازفة تبقى من دون علاج سنوات، ولو توفرت مظلة عربية لحل هذه المشكلات لما كان بإمكان إدارة ترامب مساومة كل هذه الدول على مصالح استراتيجية، وفي حالتي سورية والصومال وصلت إلى حد المساومة على سيادة الدولة.

والجديد الأهم في المشهد الراهن أن “الهيمنة” ليست الكلمة الأكثر دقة في التعبير عن محتوى العلاقة بين أميركا وشركاء صفقاتها، ففي حالة واحدة على الأقل بدأت الخطوة الأولى في طريق الصفقة من الطرف الثاني لا من واشنطن. وفي ظل سيطرة أميركا، شبه التامة، على ثلاثة من أصوات حقّ النقض (مع بريطانيا وفرنسا)، يبقى “الفيتوان” الروسي والصيني مرتهنين لخدمة مصالح البلدين المباشرة، حيث لاستخدام أي منهما ثمن، وللإحجام عن استخدامه أيضاً ثمن. وعليه تكون أميركا الوجهة الأكثر احتمالًا لأيٍّ من أطراف “معارك تنازع الشرعية” في العالم العربي.

والبدائل المتاحة، داخليّاً وإقليميّاً ودوليّاً، أثبتت تجربة السنوات القليلة الماضية أنها عاجزة عن حل المشكلة جذريّاً، والقوى الإقليمية التي جرى الاعتماد عليها بأمل أن تحل المشكلات المعلقة منذ سنوات، عزّزت الاستقطاب ورسّخت الانقسام ولم تفلح في بناء شرعية تتجاوز الانقسام. وهذه العوامل جميعاً سهلت مهمّة إدارة ترامب التي وجدت جراحاً مفتوحة وخصوماً منهكين وشرعية واهية أو منعدمة، فلم تكن في حاجةٍ إلى بذل جهدٍ يذكر لتصبح أمام صفقاتٍ، محتملة، يمكن أن تعزّز النفوذ الأميركي على نحو غير مسبوق، من دون أن تكون مضطرّة إلى شراء هذا النفوذ بحزم مساعدات اقتصادية مكلفة، بل توشك أن تضع دولاً ذات أهمية استثنائية في المنطقة تحت العباءة الأميركية (تقريباً) من دون تكلفة.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى