السفر مع سلوى حجازي

معن البياري

حسمتُ أن يُرافقَني في سفري من الدوحة إلى إسطنبول ثم أنطاليا، فأقرأُه في طائرتيْن، كتابُ البحّاثة الصديق، كريم جمال (1992)، “سلوى… سيرة بلا نهاية” (تنمية، القاهرة، 2025)، غير أن تطيّراً غشيَني، لحظاتٍ عبَرت سريعاً، فالكتابُ لا يتقصّى فقط سيرة المذيعة التلفزيونية المصرية، سلوى حجازي، إعلاميةً وشاعرةً بالفرنسية، وإنما أيضاً تفاصيل جريمة إسقاط سلاح الجو الإسرائيلي الطائرة الليبية التي كانت تقلّها من بنغازي إلى القاهرة، يوم 21 فبراير/ شباط 1973، فقضَت عن 38 عاماً، مع نحو مائةٍ من الرّكاب، غالبيّتُهم مصريون وليبيون، ومعهم خمسة سوريين وأربعة لبنانيين وأربعة أردنيين وفلسطينيان، والطاقم بقيادة طيّارٍ فرنسي. وذلك لمّا قلتُ لنفسي إنه مُفزِعٌ ربّما أن تقرَأ كتاباً، يتضمّن تفاصيل عن حادثةٍ مروّعةٍ عن سقوط (أو إسقاط) طائرة، وأنت بين السماء والأرض، غير أنني دفعتُ هذا التحسّب، وباعثي أن كريم جمال لا شكَّ يصنع في مؤلفه الجديد سرْداً إنسانياً رائقاً وشائقاً، ومفصّلاً، يُؤنس من يقرؤه بفائضٍ من المتعة والجاذبية، في عرضِه ما تأتي بها “بحبشاتُه” المثيرة، والدؤوبة، في الوقائع التي يتحرّاها، ويحرصُ على الإحاطة بكل حافّاتها وجوانبها. وبهذا كله، سيُنسيني أنني في طائرةٍ تحلّق في الأعالي. ومردّ رهاني هذا صنيعُ صاحب هذا الكتاب، وهو صاحبي رغم لقاء وحيد، ثم بضع اتصالاتٍ، بيننا، في كتابه التحفة السابق، “أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي” (تنمية، القاهرة، 2022). وهذا ما كان، فقد رافقتني سلوى حجازي في سفرتي هذه في طائرتيْن، ثم بقيَت من الكتاب بعضُ صفحات، طالعتُها في غرفةٍ باردةٍ في فندقٍ جيّدٍ في أنطاليا الشاطئية، فأحرزتُ دفئاً وفيراً من سردٍ حميمٍ عن مذيعةٍ من زمنٍ بعيد، أجاد كريم جمال في تقديمها إعلاميةً وشاعرةً ورسّامةً ومترجمةً وقاصّةً ومثقفة. وفي الغضون أيضاً، شخصيةً طموحةً وقلقةً، ومسكونةً بحزنٍ ما، وبخوفٍ ما. وشابّةً تزوّجت باكراً وأمّاً لأربعة أبناء تتابعوا في أثناء شغلها المُجهِد، وهي تحاولُ أن تجدّد في عملها الذي التحقت به في 1960، وهي التي لم تُحرز شهادةً جامعية، فقدّمت من إعدادها برنامجاً للأطفال كان شهيراً في زمنه، على شاشة التلفزيون العربي (قبل تسميته التلفزيون المصري). وما زال تلفزيون “ماسبيرو زمان” يستعيد مقابلاتٍ حاورَت فيها شخصياتٍ، في الفنون والثقافة والسياسة، منهم نزار قباني الذي صِرنا نعرف أنه كان ينوي ترجمة أول ديوانيْها إلى العربية، ولم يكن يتقِن الفرنسية تماماً، ثم لم يحدُث هذا.
كانت حلقةً طيبةً من برنامج “معكم منى الشاذلي” على شاشة “ON”، استُضيف فيها أبناء الراحلة، رضوى ومحمد وآسر (من دون أخيهم الرابع هاني)، ومعهم كريم جمال، للحديث عن الكتاب. مدهشٌ أنهم وفّروا للباحث، في أثناء إعداده كتابه، المتقن حقّاً، أوراقاً خاصّةً لوالدتهم وأرشيفاً كبيراً عنها، ثم قالوا لمحاوِرتهم (وللمشاهدين طبعاً) إنهم عرفوا معلوماتٍ كثيرةً عن والدتهم، وعن الجريمة الإسرائيلية، من الكتاب لم يسبق أن عرفوها، ومن ذلك اكتشافُهم (مثلاً) أن والدتَهم ترجمت قصائد من الفرنسية لفيكتور هوغو إلى العربية. وأظنُّها المرّة الأولى التي يجتمع فيها سردٌ وافٍ يحسم مسؤولية وزير الحرب الإسرائيلي، موشيه دايان، عن إسقاط تلك الطائرة فوق سيناء المحتلة، الطائرة التي لم يكن مُرتّباً أن تغادر فيها سلوى حجازي إلى القاهرة، فرحلتُها كانت مقرّرةً من طرابلس على متن طائرة مصرية، غير أنه القدر، أو عدم توفّر مقاعد في حجزٍ لم يترتّب جيّداً، جعل سفرتَها تصير من بنغازي، في طائرةٍ ليبية، برفقة زميلها المخرج عوّاد مصطفى، أخطأ قائدُها الفرنسي جاك بورجيه في مسارها، فطوّقتها أربع مقاتلاتٍ إسرائيلية، استهدفت محرّكها، ثم صوّبت عليها نيرانها الغادرة، كما اعترف قائد سرب “الفانتوم” الذي أسقطها، المقدّم يفتاح زيمير، لصحيفةٍ عبريةٍ في سبتمبر/ أيلول 2023.
هذا كتابٌ لا يوجَز عنه، ولا تحيط بكل ما فيه مقالةٌ سيّارة، وإنما يُقرأ فقط، لا عن سلوى حجازي وحدها، شاعرةً ووجهاً تلفزيونياً (طلبت نقلها إلى الإذاعة ورفضوا)، وإنما أيضاً عن مشهدٍ ثقافيٍّ وإعلاميٍّ مصريٍّ عريض. وكان بديعاً من كريم جمال أنه بسط معلوماتٍ، كثيرُها نادر، عن بعض شهداء الجريمة الإسرائيلية التي لا يجوز أن تُنسى، ومنهم الوزير الليبي السابق، صالح بويصير، وبسط كثيراً عن تجربةٍ إنسانيةٍ وثقافيةٍ وإعلامية، كانت الصُّحبة معها مؤنسةً في السفر في طائرتيْن.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى