اللامركزية في سوريا.. حل تحمله الثورة أم فخ تفرضه الفوضى؟

باسل المحمد

مع دخول سوريا مرحلة جديدة بعد سقوط نظام الأسد، طفت على السطح عشرات الرؤى حول مستقبل الحكم في البلاد، من قبل بعض سلطات الأمر الواقع التي كانت تمارس هذا النوع من الحكم قبل سقوط النظام، مثل “قوات سوريا الديمقراطية” التي تطالب بحكم ذاتي موسّع ضمن إطار لامركزي.

وبينما ترى بعض القوى أن اللامركزية قد تكون مدخلًا لبناء دولة عادلة ومتوازنة، بعد عقود من الحكم المركزي المستبد، يحذر آخرون من أن تطبيق هذا النموذج في ظل الانقسامات الجغرافية والسياسية الحالية قد يعمّق التفتت ويهدد وحدة البلاد.

بالمقابل، تشير العديد من التجارب الإقليمية والدولية إلى أن اللامركزية ليست مجرد خيار إداري، بل مشروع سياسي واجتماعي عميق، يتطلب بيئة مستقرة، وثقافة سياسية ناضجة، وتوافقات وطنية شاملة. فهل سوريا اليوم، بعد كل ما مرّت به، جاهزة لمثل هذا التحول؟ أم أن الحديث عن اللامركزية في ظل هذا التفكك قد يفتح أبوابًا لمزيد من التشظي والانقسام؟

ليست طرحًا جديدًا

لم تكن “اللامركزية” فكرة طارئة على المجتمع السوري بعد سقوط نظام الأسد، فمع انطلاق الثورة السورية في عام 2011، برزت مجموعة واسعة من المجالس المحلية واللجان المدنية التي أدارت شؤون المدن والقرى في المناطق المحررة، بعيدًا عن مركزية دمشق.

هذه الهياكل، التي بدأت كآليات طوارئ وتنظيم ذاتي لمواجهة الفراغ الأمني والخدمي، تطورت مع مرور السنوات، ونتيجة لظروف سياسية وعسكرية متداخلة، أدت إلى تشكّل أربع سلطات أمر واقع، فرضت نفسها خلال سنوات الحرب، ونجحت إلى حد كبير في إدارة شؤونها المحلية من النواحي الاقتصادية والأمنية والاجتماعية.

كل من هذه النماذج حمل بصمته الخاصة: ففي شمالي وشرقي سوريا، أسّست “قسد” نظامًا كانتونيًا يعتمد على انتخابات مباشرة ولجان متخصصة لإدارة التعليم والصحة والدفاع الذاتي؛ بينما شهدت إدلب والشمال السوري ولادة حكومتين مصغرتين تُعنيان بالداخلية والاقتصاد والشؤون الاجتماعية، مع مجالس محلية منتخبة تعكس تنوع المشهد الثوري؛ وفي السويداء، أثبتت اللجان الشعبية الدرزية قدرتها على تنظيم الأسواق، وتوزيع المواد الإغاثية، وتأمين الحماية الذاتية لأبناء المدينة.

وفي هذا السياق، تشير كثير من الدراسات والتقارير إلى أن هذه النماذج، رغم تفاوتها في التنظيم والتمويل، أثبتت قدرة المجتمع السوري المتنوع على خلق هندسة حكم لا مركزية تحت ضغط الحرب، ما يمهّد اليوم لنقاش جدي حول تحويل هذه “التجارب المؤقتة” إلى مؤسسات دائمة في سوريا ما بعد النظام.

اللامركزية كضرورة

يرى كثير من المطالبين بضرورة تطبيق اللامركزية في سوريا بعد سقوط النظام أن التركيز على نموذج حكم موحّد من دمشق لم يعد يلبّي احتياجات المجتمع السوري وتنوعه، بل قد يزيد خطر تكرار الفراغ الأمني والخدمي الذي انبثق عن النظام المركزي القمعي أيام حكم النظام البائد.

ويستدل الباحثون على ذلك بتجارب الدول التي شهدت تحولات في نظام الحكم، إذ أوضحت أن توزيع السلطات بين المركز والولايات أو المحافظات يساهم في بناء ثقة المواطنين، ويعزز من قدرتهم على المشاركة في صنع القرار، ما ينعكس إيجابًا على الاستقرار السياسي والاقتصادي على حدّ سواء.

وفي هذا السياق، يرى الباحث الأول في مركز عمران للدراسات، أيمن دسوقي، أن الأنماط الحوكمية المتعددة التي نشأت أيام الثورة، والقائمة على هياكل سلطة وترتيبات مؤسسات مدعّمة باقتصاد سياسي، ما تزال قائمة رغم سقوط نظام الأسد، ولا يمكن أن تتلاشى بسرعة.

وما يدفع باتجاه ضرورة تبنّي نموذج لامركزي، بحسب حديث دسوقي لموقع تلفزيون سوريا، أن مؤسسات الدولة المركزية تعاني من ضعف في القدرات والموارد والإمكانيات، إضافة إلى محدودية في انتشارها الجغرافي، وهو ما يتطلب ترتيبات مجتمعية ومؤسساتية وقانونية واقتصادية لإعادة تنشيطها على كافة الأراضي السورية.

وبالتالي ـ يضيف دسوقي ـ انطلاقًا مما سبق، يمكن القول بضرورة تجاوز النهج المركزي في الحوكمة، لكوارثه الماضية ومحدودية إعادة تأسيسه مجددًا.

إزاء ذلك، نبّه معهد واشنطن للدراسات إلى ضرورة اختيار الفيدرالية كمسار أنسب لإعادة إعمار البلاد، وتجنّب تكرار أخطاء النظام السابق. ورجّح في تقرير أعدّه الأستاذ المشارك مدير الأبحاث في جامعة ليون، فابريس بالونش، أنه “إذا أراد الشرع عدم تكرار أخطاء الأسد، فقد يضطر إلى اللامركزية الحقيقية للسلطة، وإقامة نظام فيدرالي، رغم أن هذا قد يثير أسئلة حول تخصيص الموارد”.

وعلى الرغم من الاتفاق الذي تم توقيعه بين الرئيس أحمد الشرع ومظلوم عبدي، قائد “قسد”، في 10 آذار، والذي نصّ على دمج مؤسسات “قسد” المدنية والعسكرية ضمن مؤسسات الدولة السورية، إلا أن الإدارة الذاتية ما تزال تؤكد أن “النظام الاتحادي هو المدخل لتسوية سياسية دائمة، يُنهي مركزية القرار، ويمنح المجتمعات المحلية أدوات حقيقية في إدارة شؤونها”، وذلك بحسب تصريحات إلهام أحمد في مؤتمر السليمانية، 17 نيسان الجاري.

مخاطر وتحديات

بمقابل الدعوات التي تطالب بتطبيق اللامركزية باعتبارها حلًا مناسبًا لـ”سوريا الجديدة”، نجد في الطرف المقابل أصواتًا تحذّر من أن اعتماد مبدأ اللامركزية في الحكم، في ظل الظروف التي عاشتها وتعيشها سوريا حاليًا، قد يؤدي إلى صراعات محلية ونزاعات على السلطة، وتفاقم التوترات الطائفية والعرقية القائمة، إضافة إلى احتمال تفكك البلاد وإضعاف الوحدة الوطنية.

وفي هذا السياق، يوضح مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة، أحمد قربي، أن عدم وجود هوية وطنية جامعة يؤمن بها جميع السوريين، بسبب حالات الانقسام الجغرافي والعرقي والطائفي التي سبّبتها الحرب السورية، يُعد من أبرز التحديات التي تواجه تطبيق اللامركزية في سوريا.

ومن التحديات أيضًا، يتابع قربي في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، عدم وجود بُنى قانونية وإدارية قوية تكون مهيأة لتطبيق هذا النموذج في سوريا، التي أُديرت عبر تاريخها بطريقة مركزية شديدة.

ويشرح قربي هذا الجانب بالقول: إنه في ظل عدم وجود جيش قوي، وجهاز أمني متمكّن، وحالة الترهل والضعف في مؤسسات الدولة، فإن تطبيق اللامركزية سيؤدي إلى تفوق الأطراف على المركز، ما يعني الذهاب عمليًا باتجاه التقسيم، كما جرى في العراق على سبيل المثال.

من ناحية أخرى، قد يساهم تطبيق نموذج اللامركزية، من حيث المبدأ، بدعم وتمكين مؤسسات الدولة وليس السلطة، لكن خطورته تكمن في تعدد القوى العسكرية والأمنية على الجغرافيا السورية في الوقت الراهن، والتي من الممكن أن تكون حاملًا محتمَلًا لتنفيذ انقلاب عسكري أو فرض واقع انفصالي في أي وقت، وذلك بحسب الباحث في الشؤون الأمنية والعسكرية، عمار فرهود.

وفي الحديث عن تجارب الدول التي نجحت فيها اللامركزية السياسية أو “الفيدرالية”، مثل ألمانيا وسويسرا والهند، يرى مختصون أن تطبيق ذلك في الحالة السورية يواجه عقبات كبيرة، يعود جزء منها إلى التباين الحاد في البنية الديمغرافية وتوزيع الموارد؛ ففي حين تتمتع مناطق شمال شرقي سوريا بثروات طبيعية كبيرة من النفط والزراعة، فإن مناطق أخرى تعاني من هشاشة اقتصادية وافتقار للبنية التحتية، ما يجعل الحديث عن توزيع عادل للسلطة والثروة أمرًا بالغ الحساسية.

وكان الرئيس أحمد الشرع قد أعلن معارضته للنظام الاتحادي، خلال مقابلة مع صحيفة “الإيكونوميست” في كانون الثاني الماضي، معتبرًا أنه لا يحظى بقبول شعبي ولا يصبّ في مصلحة سوريا، بحسب تعبيره.

ويُشار إلى أننا هنا لم نتحدث عن العامل الخارجي والإقليمي الذي يعارض هذه الخطوة، وعلى رأسه تركيا، التي تعتبر وجود كيان انفصالي كردي على حدودها الجنوبية تهديدًا لأمنها القومي.

هل من بديل؟

لا يرغب قسم كبير من السوريين بالعودة إلى الحكم المركزي الشديد، الذي عانوا بسببه عقودًا من التهميش والإقصاء في زمن الأسد (الأب والابن). وما زاد في الدفع بهذا الاتجاه هي تجارب الحكم المحلي التي عاشوها خلال سنوات الثورة، والتي أثبتت أنهم قادرون على إدارة مناطقهم رغم الصعوبات والتحديات.

بالمقابل، هناك مخاوف كبيرة لدى القسم الآخر من مخاطر تطبيق اللامركزية في هذا التوقيت، لاعتبارات أمنية متعلقة بوحدة البلاد. لذا، يرى باحثون أن ما تحتاجه سوريا ليس حكمًا مركزيًا شديد التركيز، بل نموذجًا يسمح بالمشاركة الواسعة للمجتمع والمؤسسات المحلية في اتخاذ القرار؛ وهو ما يُعرف بـ”اللامركزية الإدارية”.

وتعليقًا على ما سبق، يقول الباحث فرهود: عندما نضع قواعد الدولة القوية التي تكون فيها السلطة خادمة للشعب، والشعب خادمًا للدولة التي تحمي الجميع، سنصل وقتها إلى قناعة بأن مشاريع الانفصال المستترة بدعاوى اللامركزية، أو مشاريع الدكتاتورية المستترة بضرورة المرحلة، ستسقط أمام الدولة القوية ومؤسساتها المتماسكة؛ لأنها هي الضامن الحقيقي لمكتسبات الثورة ومنجزاتها، وهي الصخرة التي ستتكسر عليها دعاوى تفتيت الدولة أو اختطافها.

أما الباحث أيمن دسوقي، فينوه إلى ضرورة أن تكون المقاربة البديلة ناتجة عن حوار سوري-سوري، وهنا يمكن الاتكاء على الترتيبات الانتقالية التي عقدتها الإدارة السورية الجديدة مع الإدارة الذاتية وبعض المكونات السورية، لما تضمنته، بشكل ما، من إعادة النظر في توزيع الصلاحيات والوظائف، وضمان التمثيل المجتمعي.

ويدعو دسوقي إلى التأسيس لإطار حكم واقعي مرن لإعادة توزيع الصلاحيات والوظائف وتقديم الخدمات بين المركز والأطراف، بحيث يمتلك هذا الإطار قدرة على الحد من عودة الاستبداد مجددًا، عبر معالجة قضايا التمثيل المجتمعي وتوفير ضمانات مؤسساتية.

ولطالما أكدت الإدارة السورية الجديدة على ضرورة إشراك الجميع في العملية السياسية والإدارية، إذ تضمّن الاتفاق الموقع بين الرئيس أحمد الشرع ومظلوم عبدي، قائد “قسد”، على ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية وكافة مؤسسات الدولة، بناءً على الكفاءة، بغضّ النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية.

كما تضمنت مخرجات الحوار الوطني نصوصًا تؤكد على تحقيق التنمية السياسية وفق أسس تضمن مشاركة كافة فئات المجتمع في الحياة السياسية، واستصدار القوانين المناسبة لذلك.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى