قواعد القانون الدولي على محكّ شعبوية ترامب

نجيبة بن حسين

هل تغيّرت قواعد القانون الدولي العام ومبادئه ووجبت ملاءمة هذا النظام القانوني مع المستجدات السياسية الدولية والأعراف والممارسات الناشئة عبر الخطابات والمواقف والعلاقات الدولية المتواترة والمكثفة زمنيا ومكانيا؟ فمنذ صعود دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة ومنذ اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، والمتابع للأحداث يكاد يجزم أن القانون الدولي بقواعده ومبادئه التي صيغت إثر الحرب العالمية الثانية تحت إشراف منظمة الأمم المتحددة لتؤسس لنظام عالمي جديد، قد تهاوى وتداعت دعائمه، بل بلغ الأمر حد تعالي أصواتٍ لممثلين لدول بالتشكّك فيه وفي فاعليّته ونجاعته، ولعل أبرزها تمزيق مندوب الكيان الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة أمام أنظار العالم بأسره ميثاق الأمم المتحدة واتهامها بالانحياز ومعاداة السامية. وانتهك الكيان الصهيوني في حربه على غزّة بشكل صارخ المقرّرات الدولية وقواعد القانون الإنساني للنزاعات المسلحة، وارتكب أبشع جرائم الحرب والإبادة من دون حسيب أو رقيب، بل جوبه تجرؤ محكمة الجنايات الدولية على إصدار مذكّرات توقيف ضد بعض قادته بتشكيك في هذه المؤسّسة القضائية الدولية ووصمها بأشنع الصفات وتقزيمها، وبلغ الأمر حد تسليط عقوباتٍ عليها من الولايات المتحدة، في سابقةٍ لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلاً.

ودامت الحرب الأوكرانية الروسية ثلاث سنوات من دون إيجاد بديل للجوء إلى القوة المسلحة، ومن دون تقديم حلول سلمية ودبلوماسية من المجتمع الدولي لفضّ النزاع الذي كانت تداعياته كارثية على العالم بأسره. والحال أن القانون الدولي يرتكز على مبدأ منع استعمال القوة في العلاقات الدولية وتجريم الحروب والنزاعات المسلحة، ويقدم آليات لتجنبها كإقرار وسائل للفضّ السلمي للنزاعات، قضائية وغير قضائية، وكتكريس مبادئ أخرى تدعم هذا المبدأ وتعزّزه وتحصّنه، من ذلك المساواة في السيادة بين الدول وتجريم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والدعوة إلى تمتين التضامن الدولي والعلاقات الودّية بين مكونات المجتمع الدولي. وقد تزامن ذلك مع تعدّد المنظمات الدولية وتنوّعها وتوسّع مجال تدخّلها وتعميقها آليات التعاون بين الدول الأعضاء صلبها.

ولكن هذا الأسطول من القواعد والمؤسّسات لم يجد نفعا لمنع نشوب نزاع دولي بين قوى معادية، وتوسّع نطاق القتال وتفاقم عدد الضحايا والأضرار في حرب أوكرانيا وروسيا، بل اعتُبرت الحرب، في حد ذاتها، ضرورة ملحّة من أطراف النزاع، كلُّ وفق منظوره لمصالحه الحيوية والاستراتيجية. وعوض تعزيز مبدأ السلام والأمن الدوليين، تتحدّث قوى عظمى عن فرض السلام بالقوة، ينادي بها ترامب، وتنادي بها دول أوروبية وممثلون للاتحاد الأوروبي وأطراف أخرى لا تريد أن تشدو خارج السرب، وهي أطروحة جديدة لا تتوافق مطلقا مع الفلسفة والأهداف والمنطق الذي أفرز قواعد القانون الدولي، فهي قواعد تنطلق من ضرورة الوقاية من الحروب وتفاديها بكل الطرق المتاحة، وتعتبر أن إحلال السلم يتم بالوسائل السلمية بصورة أساسية، وبتبنّي مقاربات دولية مشتركة، وباحترام، والالتزام بالمقرّرات الصادرة عن هياكل الأمم المتحدة وعن الهيئات القضائية الدولية، فاللجوء إلى القوة هو الخيار الأسوأ والأخير، ولا يمكن أن يكون إلا استثنائياً، وفي إطار فرضياتٍ حدّدها القانون الدولي بصورة حصرية ومضيقة، لكي لا يتم التعسّف في تأويلها، ولكي لا تترك للسلطة المطلقة للدول، وبالتالي لمصالحها وعلاقات القوة والهيمنة. وتتمثل هذه الاستثناءات التي أجازها القانون الدولي في الدفاع الشرعي في صورة عدوان أجنبي مسلح، وهو حق طبيعي، لكنه يجب أن يكون مؤقتاً، ويتم بالتنسيق التام مع منظمة الأمم المتحدة، وأن يترك المجال لتدخل مجلس الأمن ضمن مهامه المتعلقة لحفظ الأمن والسلم الدوليين.

النزوع إلى بناء أعراف دولية جديدة قد يكون منطلقاً لقواعد قانونية ملزمة للجميع، يفرضها منطق القوة لا منطق الشرعية الدولية

يتعلق الاستثناء الثاني بحق الشعوب في تقرير مصيرها وفي مقاومة الاحتلال والتدخّل الأجنبي بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك اللجوء إلى القوة المسلحة. أما الاستثناء الثالث فيتمثل في تدخل مجلس الأمن تطبيقا للبند السابع من ميثاق الأمم المتحدة في صورة تهديد أو مساس بالأمن والسلم الدوليين يخوّل له اتخاذ جملة من الإجراءات يعد استعمال القوة المسلحة أقصاها.

هل هذا الموقف المروّج اعتبار السلم يتحقّق بالقوة يتلاءم مع تجريم اللجوء إلى السلاح وتشريعه بصورة استثنائية؟ لا مجال للشك في أن هذا التوجّه الجديد الذي يكرّس منطق القوة يعتبر أن من يملك القوة العسكرية هو القادر على إحلال السلام، وأي سلام؟ الواضح أنه سلم يخدم مصالحه، ويعبّر عن رؤاه وتطلعاته، ويتيح له فرض ما يتوق إليه من تأثير على مسارات العلاقات الدولية. ويترتّب عن ذلك، وفق هذا المنظور، أن من لا يمتلك القوة عاجزٌ عن تحقيق السلام وإحلال العدالة والدفاع عن حقوقه مهما كانت مشروعيّتها، وسيظلّ خاضعاً لإرادة القوي وسلطته، وبالتالي، أي دور ستضطلع به المنظمّة الدولية الأممية وهيئاتها وهياكلها في تكريس هذا المفهوم الجديد للسلام المشروط باستخدام القوة؟ هل ستكتفي بإضفاء شرعيةٍ على التحرّكات والأعمال القتالية للدول التي تستخدمه وتنتهجه أداة لتسيير علاقاتها الدولية؟ أم هل ستقوم بالإدانة وبإخضاع هذه التحرّكات للقانون الدولي ولضوابطه؟ واضح أن المنظمة الأممية لم تبد في تاريخها مهتزة وضعيفة وعاجزة كما تبدو في الحقبة الأخيرة، لا سيما إثر تولّي ترامب السلطة في الولايات المتحدة، وتصرّفه بصلف وعنجهية وتجبر إزاء الجميع، منظمّات ودولاً، معتبراً أن مصلحة بلاده فوق كل اعتبار، بما في ذلك اعتبارات القانون الدولي والهيئات الساهرة على تطبيقه، فإن تلاءم القانون الدولي مع مصالحه اعتمده وشرعن به تصرّفاته، بما فيها اعتماده القوة لتحقيق السلام، وإن تعارض القانون الدولي معها ومع نزعتها إلى الهيمنة على العالم تجاهله وخرقه، بل وندّد بالهيئات الدولية الساهرة على تطبيقه، وبإمكانه تسليط عقوبات عليها أو توقيف التمويلات وتعطيل دواليبها، وأضحت موازين القوى والمصالح والنزعة إلى الهيمنة والتوسّع المعايير الجديدة المعتمدة في التعامل مع المنظمة الأممية لإخضاعها لإرادته وجعلها أداة طيّعة لخدمة سياساته في العالم.

أصبح منطق القوة والصفقات الطاغي على العلاقات الدولية، لا منطق التآزر والتضامن والتآخي بين الدول والشعوب

وأصبح منطق القوة والصفقات هو الطاغي على العلاقات الدولية، لا منطق التآزر والتضامن والتآخي بين الدول والشعوب، فمنطق القوة يقتضي أن يقيّم كل طرف دولي وفق قوته العسكرية والاقتصادية، فيعامل الضعفاء باستهزاء وازدراء وعنجهية واستغلال مفرط ومشين، ويعامل الأقوياء بندّية واحترام وتقدير. أما منطق الصفقات فيقتضي إنشاء تحالفات واتفاقيات تقوم على أنه لا وجود لعطاء أو إنفاق أميركي خارجي من دون مقابل، وأن كل إنفاق يجب أن يقابله استثمار أميركي يدر على الولايات المتحدة النفع والربح الوفير، ويتكافأ مع ما قدّمته من أموال وضمانات أمنية داخلية أو خارجية. ويشكّل هذا الأمر، في حد ذاته، انتهاكا لالتزامات الولايات المتحدة الدولية في إطار المنظمات الدولية، وفي إطار حفظ الأمن والسلم الدوليين، باعتبارها عضواً دائماً في مجلس الأمن وشريكاً مهمّاً في ضمان الحد الأدنى من الاستقرار الدولي الذي يمرّ حتماً عبر الحد الأدنى من العدالة وتذليل الفجوة المتفاقمة بين الدول النامية والدول الغنية. … لذلك قد يعتبر هذا التوجّه مفيداً للولايات المتحدة على المدى القريب، لكنه ينذر بكوارث على المدى البعيد، بانتشار الفقر والجريمة المنظمة والحروب والهجرة غير الشرعية والإرهاب وتنامي الكراهية للولايات المتحدة من الشعوب المستضعفة التي ترى قادتها يهانون، وترى ثرواتها تُنهب ويضعها ترامب في مزاده. وهذه آفات ومخاطر دولية عابرة للقارّات، لا يمكن ان تظل الولايات المتحدة في مأمن منها مهما تبنت من سياسات وقائية وأمنية وردعية، فإغلاق الوكالة الأميركية للتنمية وتجميد المساعدات الأميركية الدولية يهدّد حياة الملايين في الدول النامية، وقد تترتب عنه آثار مدمّرة على العالم، وقد تكون الولايات المتحدة أولى ضحاياه. فإن كان ترامب شاطراً في إدارة الصفقات ودرّ أرباح على بلده، فإنه عاجر عن بناء استراتيجيات سياسية واقتصادية دولية بعيدة المدى والنظر، فنظرُه لا يتجاوز فترته الانتخابية، وتغلب عليه البراغماتية والانتهازية، فهو عاجز عن تحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية طويلة الأمد، وموقفه مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي يُبرز جيداً هذا المنحى المتهور والانفعالي في إدارة الأزمات والعلاقات الدولية، ويزعزع أيضا ثوابت في العلاقات الدولية وفي الدبلوماسية الخارجية، تصل إلى حد النكران والقطيعة، فمنطق القوة هو الذي حرّك ترامب ونائبه متجاهلين آداب العلاقات الدولية وضوابطها والاحترام الواجب بين الدول، بقطع النظر عن وزنها أو توجّهاتها الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية. الإهانة المتعمدة التي تعرض لها رئيس أوكرانيا لم تكن إلا استعراضا للقوة وتأديبا لرئيس دولة ضيف على مرأى ومسمع من العالم، إثر الإحراج الذي تعرض له العاهل الأردني عبد الله الثاني أمام الكاميرات بتعمّد الرئيس ترامب توريطه بالتزامات تتعلق بتهجير الفلسطينيين من غزّة من دون سابق إنذار بوجود وسائل إعلام، في خرق سافر للأعراف الدبلوماسية الدولية. ومن شأن هذا المرئي في العلاقات الدولية أن يحيل إلى هول ما يدور في كواليس البيت الأبيض وغرفه المغلقة في غفلة من الإعلام، وأن ينذر بظهور نزعات دبلوماسية جديدة تقوم على المخاتلة والخداع والابتزاز في خرقٍ لأخلاقيات العمل الدبلوماسي. وبالتالي، يحقّ لكل مستضاف لدى البيت الأبيض أن يضع نصب عينيه أسوأ الاحتمالات وأكثرها إذلالاً التي يمكن أن يتعرّض لها، وأن يجهز نفسه لكل التوقعات والفرضيات الممكنة، في حضرة مضيفٍ متعجرفٍ يجيز لنفسه ولفريقه كل الخطابات والتصرّفات المستفزّة والمهينة لتحقيق أهدافه، وإظهار نفسه في مظهر الرئيس الذي لا يقهر، وملك العالم الذي لا يُداس له طرف، معتقداً أنه يمتلك زمام الأمور، ويتلاعب بكل أوراق الضغط والمراوغة.

يقتضي  منطق الصفقات إنشاء تحالفات واتفاقيات تقوم على أنه لا وجود لعطاء أو إنفاق أميركي خارجي من دون مقابل

محصلة القول إن النزوع إلى بناء أعراف دولية جديدة قد يكون منطلقاً لقواعد قانونية ملزمة للجميع، يفرضها منطق القوة لا منطق الشرعية الدولية، يضع المجتمع الدولي أمام اختبار أخلاقي وإنساني مصيري، فتعدّد الأقطاب الدولية لم يتجذّر بالقدر الكافي في المشهد الدولي، ولم تكن له آثار جوهرية على مستوى توازن القوى عالميا، إذ لا تزال الأحادية القطبية الأميركية طاغية ومحدّدة. وما التقارب الروسي الأميركي في عهد ترامب إلا واحدٌ من مظاهرها، فالمحور الأميركي تدور في فلكه القوى المؤثرة التي يصطفيها لتعزّز نفوذه، ويذهب إلى عدم معاداتها، رغم اختلافهما الجوهري في التوجّهات والتحالفات، لأنها في واقع الأمر مكمّل له والوجه الآخر لعملته الرابحة. وقد تتحوّل روسيا على المدى القريب إلى حليف حقيقي للولايات المتحدة، في ظل الضعف الذي يسود الاتحاد الأوروبي، ولا سيما على مستوى السياسات الخارجية والدفاعات المشتركة. وبالتالي، لا يزال ترامب بصدد ضبط تصنيفاته الأعداء والحلفاء التي يمكن أن تفاجئ الجميع، لأنه، في انتقائه هذا، لا يعترف إلا بمعيار وحيد، منطق القوة والغلبة وسياسة “أميركا أولاً”. ولا يبدو مستبعداً أن تنشأ ثنائية قطبية من نوع جديد، يسودها الوئام والانسجام وتحكُمها المصالح تجمع روسيا والولايات المتحدة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى