قم للمعلم

د. عبد الناصر سكرية

كعادتنا في كل عام نحتفل بعيد للمعلم..وهو الاحتفال الذي بات ملحا أن يكون برؤية واضحة لدور المعلم في التربية وتنشئة الأجيال على مفاهيم العدالة والحق والإنتماء الوطني وتعميق قيم الأخلاق والهوية ومرتكزات تحرير الأرض والإنسان ..ومن ثم المساهمة الفعالة في بناء دولة المواطنة وسيادة القانون والعدل والحرية..فإلى أي مدى باتت إحتفالاتنا بالمعلم في يومه ؛ تحترم دوره وتؤديه حقه وتمنحه حصانة الرأي السديد والقدرة على تنفيذ مهمته التربوية وفق ما ينبغي ؟؟

منذ عقود طرحت في لبنان نظريات جديدة في ”  التربية الحديثة ” والسياسات التعليمية  كان مؤداها العملي إهمال التعليم الرسمي وإنعاش التعليم الخاص ..ترافق هذا مع إلغاء مادة التربية الوطنية وترك المجال للتعليم الخاص لإنتهاج برامج تعليمية تخلو من أي إلتزام وطني أو تربوي فعال..الأمر الذي أنتج عشرات المفاهيم المتضاربة عن الهوية والإنتماء كما عن القيم الأخلاقية والإجتماعية..راحت كل مؤسسة تدرس ما تشاء وتوجه الأجيال كيفما تشاء ..وهو ما تسبب في إنتاج عقول شبابية تائهة فيما يخص حقيقة هويتها وإنتمائها وبالتالي بعثرة في توجهاتها وتنوعا في مشاربها الثقافية..فكانت النتائج مخربة كل ما هو جامع ومشترك وتوحيدي لمصلحة كل ما هو فئوي وتعصبي حيث باتت الذاتية محورا اساسيا في كل رؤية وكل تطلع نحو المستقبل..وصار التشرذم هو السمة الأساسية في برامج التعليم حيث لم يعد هناك ما هو مشترك وجامع في عقول وتوجهات الأجيال..باتت الفردية هي معيار البحث في المعرفة والثقافة وأسلوب التفكير ..وهكذا تاهت أجيال بحالها عن مسار إنتاج قوى شبابية ذات توجهات مستقبلية إيجابية بناءة..

فوق ذلك تحول التعليم الخاص إلى نوع من التجارة والسعي نحو الكسب المادي أحادي الجانب..

أما التعليم الرسمي فقد فقد دوره ووظيفته وفقد بالتالي أية أهمية وصار طاردا للجديين وجاذبا للتلهي وإضاعة الوقت والإبتعاد عن أصوله التربوية والتوجيهية..فلم يعد ينتسب إليه إلا من كان غير قادر على دفع تكاليف التعليم الخاص المدرسي والجامعي والأكاديمي..لقد إستباحت أطراف نظام المحاصصة الطائفية المؤسسات التعليمية الرسمية وأفرغتها من دورها وأفقدتها أهميتها ..كل ذلك لصالح المؤسسات الخاصة التي كان بعضها أو معظمها ملتزما بتوجيهات خارجية أو سلطوية تقوم على مدى ما يوفره لها من منافع مقابل ما توفره له من تحلل وتراجع عن ثوابت الثقافة الوطنية ..وهكذا حوربت اللغة العربية كأداة لإمتلاك ثقافة ترسخ الإنتماء وتعمق الإلتزام بمقومات الهوية الوطنية وشخصيتها الإعتبارية..حتى أنتجت أجيالا لا تجيد التعبير عن ذاتها إلا بلغة أجنبية ..

وإذا أضيف إليها إلغاء أية مادة للتربية الوطنية في التعليم الخاص كما الرسمي ؛ باتت الأمور تنذر بمزيد من التشتت والضياع.. وحتى يتم هذا كان لا بد من تهميش دور المعلم وحرمانه من المقدرة على الأداء المطلوب فصار نهبا للمصادر التعليمية التجارية..تتنازعه ضغوط الحياة ومتطلبات المعيشة بكرامة من جهة ؛ وإغراءات التعليم الخاص المفرغ من مضمون إنتاج أجيال شبابية تفتخر بهويتها ولغتها وثقافتها الوطنية..

وعلى الرغم من بسالة وصمود عشرات الكوادر الأكاديمية من شرفاء الوطن دفاعا عن الجامعة اللبنانية كمؤسسة تعليمية جامعة تمثل ساحة إلتقاء وتفاعل أبناء الوطن ؛ إلا أنهم يحاصرون ويهمشون لصالح ولاءات فئوية وعصبيات تمزيقية يدعمها نظام طائفي فاسد ومفسد ..الأمر الذي جعلها تترنح تحت ضربات مغرضين مسلحين بنفوذهم الفائق في سلطة باتت عائقا خطيرا بوجه كل جهد وطني حر شريف وكل توجه توحيدي جامع مما يترك الأجيال فرضة لذئاب الإنغلاق الطائفي والمذهبي والتقوقع المناطقي والإجتماعي ..وهو ما يشكل أرضية خصبة لتقبل دعوات الإنفصال والتشرذم والتقسيم وتقبل أوهام العداء والتنافر بديلا عن قيم المواطنة والعدالة والقانون والمصير الوطني الواحد..

غاية القول ان أي إحتفال بالمعلم في يومه وعيده لا يخرج عن إطار الشكليات والمناظرات الكلامية ؛ يفقد كل قيمة ويهدر الوقت والإمكانيات والتغطية على تهميش دور المعلم الحقيقي وإستمرار محاصرته بالحاجة وضغط الظروف وتضارب المصالح والتوجهات والولاءات..

أن نحتفل بالمعلم فيستوجب إعادة الإعتبار لدوره ووظيفته في تشكيل الوعي الوطني الذي هو أساس الإحساس بالإنتماء إلى وطن واحد ..حيث المصير الواحد يلم الجميع رغما عن كل إدعاء أو مكابرة..

ولن يتحقق شيء من هذا إلا بإعادة الإهتمام بالتعليم الرسمي وتدعيمه ليعود جاذبا للأجيال وليس للإحباط فيه مقام..يستدعي هذا توفير مقومات العيش الكريم للمعلم..كما إعادة مادة التربية الوطنية وفرضها كمادة أساسية إلزامية ليس فقط في التعليم الرسمي بل في كل مؤسسات التعليم الخاص..

فهل يمكن تحقيق هذا في ظل أوضاع مزرية تتخبط فيها السلطات المسؤولة عن التعليم والتربية وفي مقدمتها وزارة التربية التي يعيث فيها فساد موصوف وتشوه مدروس ؟؟

ألا إن نظاما المحاصصة الفاسد الفاسد ؛ قد افسد التربية ومؤسساتها كما أفسد التعليم ومناهجه..فبات ملحا تعاون المخلصين الشرفاء لفرض بعض إصلاح مطلوب إن تعذر كله ..

كل التقدير والوفاء لكل معلم في موقعه ما يزال يلتزم برسالة التعليم التربوية قبل كل شيء..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى