في تكلّس العقيدة الدبلوماسية للجزائر

المهدي مبروك

قلّصت الجزائر من مستوى حضورها في القمّة العربية الطارئة، في القاهرة الثلاثاء الماضي (على خلفية خطّة تهجير الفلسطينيين الغزّيين التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب)، واكتفى الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، بإرسال وزير خارجيته أحمد عطّاف لتمثيل بلاده. كان ذلك تعبيراً عن استيائه من “تفرّد بعض الدول العربية بتدبير مُخرجات القمّة، حتى قبل أن تبدأ، وكأن القضية الفلسطينية هي حكر على مجموعة بعينها”. في إثر ذلك، قرّرت تونس أيضاً (وفي الاتجاه نفسه تقريباً) الموقف نفسه، وقلّصت من مستوى حضورها. غير أن الأمر يختلف هنا، فالرئيس التونسي، قيس سعيّد، اختار مبكّراً عدم الحضور في جُلّ القمم التي انتظمت منذ صعوده إلى دفّة الحُكم 2019، سواء القمم العربية أو قمم الاتحاد الأفريقي وغيرها من الفرص المهمة، على خلاف سلفه السابق، المرحوم الباجي قائد السبسي الذي لم تمنعه سنّه المتقدّمة، وحالته الصحّية المنهكة، من حضور قمم عديدة، ومن زيارات عديد من العواصم العربية والأوروبية (باريس وواشنطن وروما…).

أسقطت الدبلوماسية الجزائرية من غربالها كلّ القضايا الجيوسياسية، واكتفت بالصحراء الغربية معياراً وحيداً تقيس به حرارة مواقف الآخرين منها

قد تكون سياسات الغياب مجديةً رمزيّاً، تضفي شيئاً من البريق المبدئي على صاحبها وتمنحه بعض المشروعية الأخلاقية، فيبدو المتغيّب أمام نظرائه والرأي العام العربي صاحب موقف، وأنه لا يرضى أن يكون شاهد زور… إلخ. رغم هذا النبل كلّه (إذا سلّمنا بأن الناس يدركونه في هذا النحو)، لا جدوى منه، وهو من باب تبرئة الضمير لا غير. ليس لهذه المواقف أيّ صدىً، خصوصاً في ظلّ الاكتفاء بتسجيلها، وهي التي لا تتلوها عادةً أيُّ مبادرة.
سيعود الوفد الجزائري (أو غيره) مزهوّاً بانتصاره الأخلاقي، وتقف الأمور بعدها عند هذا الحدّ. هذه دبلوماسية سلبية وغير نشطة، تكتفي بتسجيل المواقف، ولكن سرعان ما تُطوى ملفّاتها تلك. لم نرَ الجزائر تقود مبادرةً عربيةً أخرى أفضل بكثير، من شأنها أن ترفع سقف المطالب العربية، وتُحدِث اختراقاً في ما أُجمِع عليه، كما أنها ستكون غير قادرة على أن تبلور موقفاً واضحاً يشكّل بديلاً تصطفّ وراءه دول عربية، أو غيرها ممّن يفترض أنهم يقتربون من موقف الجزائر التي تقف مثلاً عاجزةً عن التنسيق مع جنوب أفريقيا، وعديد من دول أميركا اللاتينية والدول الإسلامية الآسيوية، من أجل بلورة خطّ جديد يُعبّر عن موقفها الذي يتردّد بشأنه في بلدان كثيرة أنها عاجزة عن بناء تحالفات حتى مع “من يشبهها”.
يعود الإخفاق الجزائري الذريع، الذي فشلت منذ سنوات في تجاوزه، إلى عدّة اعتبارات، منها ثلاثة متضافرة لا يمكن فصل بعضها عن بعض. الأول أن الجزائر لم تنسَ بعد ما تعدّه “صمتاً عربياً غريباً” على ما شهدته في عشرية الرصاص. تشعر بعض القوى المتنفّذة في صناعة دبلوماسيّتها أن أشقّاءها العرب خذلوها نوعاً ما، ولم يؤازروها كما يكفي، بل تركوها تنزف وحدها. يلعب بعضهم من ذوي النعرات الطائفية، المتمركزين في صناعة القرار الدبلوماسي، دوراً متنامياً في فصل الجزائر عن حاضنتها العربية. قدّمت الجزائر لجُلّ القضايا العربية خلال ستينيّات القرن الفارط وسبعينيّاته كثيراً من الإسناد والدعم، وهي التي احتضنت منظّمة التحرير الفلسطينية، وكان صوتها من هناك يصل إلى مختلف أصقاع العالم. كان ذلك مع هواري بومدين، وفي بعض ولاية الشاذلي بن جديد تحديداً، لكن انكماشاً دبلوماسياً حصل بعد ذلك، غذّته تحوّلات إقليمية وجيوسياسية عديدة.

الجزائر تمضي في تبديد الموارد كلّها، تلك التي ترشّحها لتستعيد موقعها المتقدّم على المستوى الجيوسياسي

السبب الثاني في هذا الإخفاق الدبلوماسي المتجدّد، ويعيد إنتاج نفسه منذ عقود، انشغال الجزائر بخلافاتها المزمنة، التي تحوّلت مرضاً وفوبيا. لم تفلح الجزائر من الخروج من “وحل الصحراء”، لقد أعمى ضبابها وغبارها أعين دبلوماسيّتها، وأصبحت الكوّة الوحيدة التي تطلّ منها على العالم. أسقطت الدبلوماسية الجزائرية من غربالها كلّ القضايا الجيوسياسية الأخرى، واكتفت بالصحراء الغربية معياراً وحيداً تقيس به حرارة مواقف الآخرين منها. رأينا كيف فشلت الجزائر في التعامل مع الملفّين، الليبي والسوداني، ومع كل الرمال المتحرّكة في حدودها. لقد افتقدت الجزائر الخيال الدبلوماسي الخلّاق للتعاطي مع هذه التحوّلات كلّها، في مقابل تركيز مَرَضي في قضية الصحراء الغربية، وغدت دبلوماسيّتها أسيرةَ الصحراء الغربية.
العامل الأخير، تلك العلاقة التي حصرت مردودية الدبلوماسية الجزائرية في استحضار “العداء” الأبدي مع فرنسا. الجزائر محقّة في مطالب عديدة، غير أن ذلك لم يخلُ من شعبوية، تعيد الخلافات التي تندلع بين البلدَين بين حين وآخر، وتنتج بعض المشروعية السياسية، التي يطمح إليها كلّ من النظام الجزائري واليمين الفرنسي، تحديداً حين يُلعب بمشاعر الذاكرة المرّة، والهُويَّات الجامحة.
تمتلك الجزائر المقومات كلّها، التي تحوّلها قوةً دبلوماسيةً في المنطقة تنتصر فيها (أولاً وأخيراً) لمصالحها المشروعة، وتسند فيها القضايا العادلة التي تنسجم مع روح الثورة الجزائرية، غير أن الجزائر تمضي في تبديد الموارد كلّها، تلك التي ترشّحها لتستعيد موقعها المتقدّم على المستوى الجيوسياسي، حين تنخرط في ما عرضنا أعلاه من صراعات صغيرة، ولكنّها شالّة ومُنهِكة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى