
شهدت سورية منذ 8 ديسمبر/ كانون الأول (2024) مرحلةً جديدةً من تاريخها، قد تؤسّس لبناء دولةٍ سوريةٍ متطوّرة لكلّ مواطنيها، أو قد تعود إلى الغرق في المستنقع نفسه، مستنقع الانقسام الداخلي، والاختلاف حول كلّ شيء، إلى جانب الصدام الداخلي، بل يمكن القول، هذه المرّة، ومن دون أي لبسٍ، الغرق في مستنقع الحرب الأهلية.
لم تكن الثورة السورية مصدر هذا الخطر، بل كانت ممارسات سلطة الأسد على مدار السنوات الماضية مصدَرَه الرئيس، إلى جانب ممارسات كلّ القوى (الداعمة للأسد والمعارضة له) التي ساهمت في قمع الحراك الشعبي السوري، وفرض سيطرتها قسراً عليه في أماكن سيطرتها، وهو ما شهدناه مراراً وتكراراً في مختلف أنحاء سورية، سواء التي كانت خاضعة لسيطرة الأسد أو لسيطرة قوى المعارضة المسلّحة. لكن، وبعيداً الآن عن أسباب ذلك السابقة، هل يصح اعتبار الخطر الطائفي قَدَراً محتوماً على سورية في مرحلة ما بعد الأسد؟
عملياً، كان من الصعب تجنّب الخطر الطائفي كلياً بعد إجرام الأسد المكثف منذ اندلاع الثورة السورية، الذي أضيف له إجرام قوى الأمر الواقع المختلفة، الداخلية والخارجية، اللذَين جعلا الواقع السوري الداخلي هشّاً ومخترقاً. رغم ذلك، كان (ولا يزال) من الممكن الحدّ منه، غير أن مسار الاستفراد والتقسيم الطائفي الذي اختارته حكومة الأمر الواقع الحالية، إلى جانب احتفاء قطاعاتٍ شعبيةٍ واسعةٍ بما سمّته “السلطة السُنّية” الممثّلة للغالبية الطائفية، حسب زعمهم وافتراضهم القسري، التي ترافقت مع رفض أيّ نقدٍ يطاول السلطة على اعتباره نقداً يطاول مجمل الطائفة السنّية، ويعبّر عن استهدافها مباشرةً، ساهم ذلك كلّه في زيادة الخطر الطائفي، حتّى وصل إلى حدّ ارتكاب مجازر بحقّ مدنيين عزل، منهم أطفالٌ ونساءٌ وشيوخٌ، بل تجرّأ بعضهم على تبرير ذلك، ولو مؤقّتاً (نحو يومٍ كاملٍ)، محمّلين مسؤولية المجازر لغير مرتكبيها، تماماً كما كانت تبريرات نظام الأسد، فضلاً عن مشكّكين بالمجازر أصلاً.
فرصة لتصحيح المسار السوريّ عبر خطِّ مسارٍ تشاركيّ شفّافٍ سوريّ سياسيّ حقيقيّ يشمل كلّ المشارب السياسية السوري
لم يقتصر السلوك الطائفي وأسلوب الاستفراد على سلطة الأمرِ الواقع المسيطرة اليوم على معظم سورية فحسب، أو حتّى على القطاعات الشعبية الداعية إلى سيطرة الطائفة السُنّية على مقاليد الحكم والمجتمع، وفرض رؤاهم الطائفية على مجمل المجتمع، بل امتدّ إلى قطاعاتٍ متعدّدةٍ، منها حاضنة النظام الساقط الطائفية (بعض العلويين)، ومنها جمهور قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ومنها للأسف أصواتٌ طائفيةٌ انفصاليةٌ فتحت الباب أمام تدخّل الاحتلال الصهيوني في الشأن السوري الداخلي، تدّعي زوراً تمثّيل كلّ دروز سورية (الموحّدين). ولكن يبقى سلوك السلطة السورية الحالية، وممارسات حاضنتها الشعبية القمعية، بالحدّ الأدنى، المسبب الرئيس في تنامي هذه الممارسات وشرعنتها، وفي تعطيل مسار رصّ الصف السوري الداخلي، بل أصرّت السلطة القائمة على رفض أي تمثّيل سياسي للسوريين، وحصرت آليات التمثّيل بالهياكل الطائفية والمناطقية، في مسعى منها إلى الاستفراد بالشأن السوري، وتثبيت القاعدة الطائفية، لأنها القاعدة التي تؤمن بها الأكثرية المزعومة، على اعتبار كلّ سنّيٍ بالولادة سنّياً بالانتماء الطائفي، لتلغي الفكر والانتماء السياسي، بل لتلغي الانتماء السوري ذاته مجتمعاً ودولةً. من هنا، أصرّت سلطة الأمر الواقع على رفض أيّ حوارٍ أو تواصلٍ مع أيٍّ من القوى السياسية السورية، كما كرّست وعياً انفصالياً طائفياً، جسّدته قانونياً في تعزيز التوجّهات القضائية الطائفية، على مبدأ المحاكم الشرعية الخاصّة بكلّ طائفةٍ، وربّما كنا سنشهد لاحقاً أعلاماً طائفيةً ترفرف إلى جانب العلم السوري.
تجدر الإشارة إلى كلمة الرئيس أحمد الشرع، مساء الجمعة الماضي، عقّب فيها على أحداث الساحل السوري، خصوصاً مدينتي بانياس وجبلة، إذ يجد الكاتب أنّ الإيجابية الوحيدة في الخطاب كانت في إطلالة الشرع السريعة، فمن واجب السلطة، أيّ سلطةٍ، بغض النظر عن شرعيتها، الحفاظ على مخاطبتها مجمل مواطنيها، خصوصاً في الأحداث الصعبة. أمّا مضمون الكلمة فقد كان مضلّلاً بالحدّ الأدنى، وتعمّد تجاهل التقارير عن المجازر بحقّ المدنيين، وهو سلوكٌ غير مقبولٍ من سلطةٍ تدّعي تمثيل كلّ السوريين، كما لا يصحّ تبريره بعدم اطِّلاع الشرع على ما حصل، إذ ملأت التقارير الموثّقة (أو عالية المصداقية)، والشهادات الحيّة، صفحات السوشيال ميديا، قبل ظهور الشرع العلني. وعلى فرض عدم اطِّلاع الشرع على تلك التقارير، أو تقصير طاقمه الأمني والسياسي في إطلاعه عليها، أو حتّى جهل طاقمه الأمني والسياسي بها، فكلّها حججٌ يتحمّل الشرع مسؤوليتها المباشرة، فهو المسؤول عن اختيارهم، وعن تكليفهم وتوجيههم.
من ذلك كلّه، ورغم المصاب السوري الجلل، قد ينجح السوريون في تحويل أحداث مارس الحالي فرصةً لتصحيح المسار السوري، أولاً عبر محاسبة كلّ مرتكبي مجازر الساحل أخيراً، بل والعودة إلى المجازر السابقة، أو التجاوزات السابقة، خصوصاً في محافظة حمص.
ينبغي وقف كلّ المظاهر الطائفية السياسية والاجتماعية، فالدولة السورية دولة كلّ السوريين بكل انتماءاتهم الدينية وغير الدينية
وثانياً عبر خطِّ مسار العدالة الانتقالية السورية فوراً، بما يشمل محاكمة كلّ مرتكبي الجرائم في سورية، وفي مقدّمتهم عصابات الأسد وشبّيحته، مروراً بالجرائم الطائفية والجرائم ضدّ الإنسانية، التي ارتكبتها زوراً مجموعاتٌ مسلّحةٌ باسم الثورة السورية. وثالثاً، عبر خطِّ مسارٍ تشاركيّ شفّافٍ سوريّ سياسيّ حقيقيّ فوراً، يشمل كلّ المشارب السياسية السورية، على اعتبارهم شركاء متساوين في الأهمية والقوّة، بعيداً من منطق الغلبة العسكرية. رابعاً، إطلاق صلاحياتٍ واسعة للقطاع الإعلامي بشقّيه التقليدي والبديل (أي إلغاء كلّ التوجيهات والقوانين التي منعت تغطية العمليات الأمنية تحت ذرائع مختلفة)، إذ كان الإعلام البديل وسيلة السوريين الرئيسة في مواجهة آلة الأسد الإعلامية، بل والآلة الإعلامية الطائفية التي غذّتها بعض دول المنطقة، كما قد يساهم الإعلام البديل في كشف انحرافات السلطة السورية الحالية والمقبلة، بل في محاسبتها أيضاً على انتهاكاتها أو أخطائها في حال وجودها. وينبغي (خامساً) وقف كلّ المظاهر الطائفية السياسية والاجتماعية، فالدولة السورية دولة كلّ السوريين بكل انتماءاتهم الدينية وغير الدينية. وعليه؛ فمن غير المقبول صبغُها بلونٍ ديني أو طائفي محدّد، مع الحفاظ على حقّ السوريين في ممارسة (أو حتّى عدم ممارسة) شرائعهم الدينية من دون أيّ قيدٍ أو شرط، في الأماكن المخصّصة لذلك، ومن دون أيّ تأثيرٍ في حياة الآخرين، وعلى عمل المؤسّسات العامّة والخاصّة.
احتاجت سورية والسوريون إلى صدمةٍ تحذيرية، تستنهض قيمهم الإنسانية التشاركية غير الإقصائية، تلك القيم التي جسّدتها ثورتهم العظيمة، وهو ما يُؤملَ حدوثه في الفترة المُقبلة، وإلّا فإن الخطر الطائفي سيلتقي قريباً مع الخطر الخارجي، المتجسّد عملياً في الخطر الصهيوني الزاحف يومياً، بيد أنه لن ينحصر به فحسب، فالانقسام الطائفي والحرب الأهلية يشرّعان الأبواب أمام كلّ اللاعبين الإقليميين والدوليين الساعيين لقضم سورية وثرواتها، واستغلال شعبها الحي، والغني بقدراته وإمكاناته ومهاراته.
المصدر: العربي الجديد