قراءة السياسة والاجتماع في الأردن عبر أزمات المرور

مراد بطل الشيشاني

تدخل سيّارة من طريق فرعي إلى آخر رئيس، من دون إعطاء إشارة الالتفاف (الغمّاز في كثير من اللهجات العربية)، وفي أحيان كثيرة يعتبر السائق أنه آمن إن لم يلتفت إلى الشارع والسيارات المُقبلة. “الغمّاز” ذاته عزيز الاستعمال، التجاوز من اليمين، واستخدام الهاتف أثناء قيادة السيّارة، وعدم الالتزام بالمسارب، ولا الأولوية في الدوار (أو الصحن بلهجة العراقيين). بعض قليل من إشكاليات السياقة في الأردن، التي تجعلها عمليةً متعبةً ومرهقةً نفسياً.

انتشرت في الآونة الماضية، في دراسات العلوم السياسية، دعواتٌ إلى دراسة سلوك السياقة في الشارع لتحليل المجتمعات، مثل دراسة السلوك التصويتي في بريطانيا لمخالفات كاميرات السرعة يوم الانتخابات، أو قياس نسب المشاركة في يوم التصويت. لكن هذه المحاولات لم تزل في طور التحليلات الأولية، وحالة الأردن والمرور فيها قد تقدّم مجموعةً ملاحظات على التغيير في المجتمع الأردني.

بدايةً، عمدت السلطات الأردنية إلى التشدّد في فرض المخالفات المروية عدّة مرّات في السنوات الماضية، بشكل ساهم إيجاباً في تحسين الأداء المروري، وهذا الأمر مدعوم إحصائياً في معظم دول العالم، بأن التشدّد في تطبيق القانون، وقيم المخالفات العالية، يساهم إيجاباً بالتزام السائقين بقواعد المرور الآمنة. لكن في المقابل، هناك من يرى أن تهديدات السلطات، برفع قيمة المخالفات بشكل كبير، غير جدّية، لأن تلك المخالفات مصدر دخل كبير لها يقدر بالملايين، وبالتالي قد يكون هذا عاملاً اقتصادياً يدوّر العملة، ويعمّق أزمة المرور في الشارع الأردني.

عمدت السلطات الأردنية إلى التشدّد في فرض المخالفات المروية عدّة مرّات خلال السنوات الماضية، بشكل ساهم إيجاباً في تحسين الأداء المروري

أنماط السياقة غير المراعية لقواعد الأمان، ملاحظة بشكل كبير في شوارع العاصمة الأردنية، وهذه لا تقتصر على السرعة الزائدة بالمناسبة، وتثير ملاحظة أولها إشكالية في إدراك مخاطر السلوك الخاطئ في قيادة السيارات، وهذا يرتبط بغياب التركيز في قواعد الأمان، والسلامة العامّة ثقافياً، سواء في العملية التعليمية، أو في الحياة اليومية، وليس أثناء قيادة السيارات فحسب، فمرتكب الخطأ المروري يعتقد لـ”شطارته وقدراته الفذّة أنه لا يرتكب حادثاً”، لكن هذا يعود لتفادي الآخرين له. تشير الدراسات إلى أن معدّل قدرات السائقين في العالم بالدرجات من عشر نقاط (واحد أدناها) هي بين أربع وست، بينما يدّعي المستطلعة آراؤهم دوماً بين سبع وثمان، كي لا يظهروا بمظهر الفخور المدّعي، ولا يقال إن قدراته على السياقة متدنّية، وبالتالي هذا يفسّر استمرار ارتكاب السائقين الأخطاء في عمّان، في ظلّ غياب سياسات تثقيفيّة تدخل في كل مجال.

ويترافق هذا مع تحوّلات اجتماعية مرّت بها المدينة، التي شكلّ توسّعها نحو الشمال والجنوب، بظهور طبقة تقطن الشقق في تلك المناطق مع ذلك التوسّع، من التكنوقراط في معظمها، تمتلك سيارتَين أو أكثر، وبالتالي اكتظّت العاصمة بأكثر من مليون سيّارة في شوارعها، حسب الإحصاءات الرسمية، وتزداد في الصيف مع عودة المغتربين، مع نقص في أماكن الاصطفاف وعدم الالتزام بها، فتكتظّ السيارات أمام شقق فارهة ليس فيها مثل تلك الأماكن المخصّصة للاصطفاف، بشكل يقلب مفهوم الحقّ في المدينة، التي يجب أن تنطوي على حياة مريحة ووجود فضاءات عامّة خارج المنازل عنوانها التعايش.

الإشارات والشواخص المروية والمسارب والقواعد، تُعبّر كلّها عن لغة للتفاهم والتعايش بين مرتادي الشوارع

الإشارات والشواخص المروية والمسارب والقواعد والتركيبة السيّارة، تُعبّر كلّها عن لغة للتفاهم والتعايش، بين مرتادي الشوارع، وليست مصدراً للتجاوز، وإظهار القدرات، وهذا يُعبّر عن ضرورة نشر الوعي القانوني بالالتزام بها. لاحظ كاتب السطور على مدى أشهر أن سائقي/سائقات السيارات الفارهة، يرتكبون أخطاء المرور أكثر من السيارات الأقلّ حظاً، بشكل يؤشّر على غياب مفهوم التعايش في الشارع، بمعنى عدم تجذر مفهوم سيادة القانون، أو التمرّد عليه، عبر عدم الالتزام بقانون السير.

تشير الإحصاءات الرسمية لعام 2023، إلى أن هناك أكثر من 80 ألف مخالفة تجاوز للإشارة الحمراء (تراجعت بنسبة 70% بعد تطبيق القانون الجديد في نهايات العام)، وأكثر من 130 ألفاً (أجل قرأت الرقم بشكل صحيح، عزيزي القارئ/ة) مخالفة عدم استخدام حزام الأمان، وأكثر من أحد عشر ألف مخالفة باستخدام الهاتف النقّال أثناء قيادة السيّارة. وتشير ذات الإحصائية إلى أن الخسائر المادية للمخالفات المرورية تجاوزت 300 مليون دينار أردني (نحو نصف مليار دولار).

أرقام تدلّل على أن الأزمة في الأردن، وهذا يندرج على عدد من الدول العربية، لا ترتبط بقانون السير فحسب، بل هي أزمة مجتمعية، تكلّف الكثير للمجتمع والدولة، ولا تتطابق مع الصورة المدنية الحديثة التي تسعى الدولة لرسمها لنفسها خاصّة في العاصمة عمّان.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى