روسيا في سورية أفعى في العُبّ

غازي دحمان

تثير تصريحات وزير الدفاع في الحكومة السورية الانتقالية مرهف أبو قصرة، عن العلاقة مع روسيا وإمكانية استمرار قواعدها في الساحل السوري، السؤال عن الهدف الحقيقي من هذا الموقف، وما إذا كان قد جرى بناؤه من منطلق منظور إستراتيجي، ربما لانعدام الخيارات، أم مجرّد مناورة الهدف منها تعظيم أوراق المساومة مع فاعلين دوليين آخرين.

وفي الواقع، تُشكّل العلاقات مع روسيا أحد أهم الملفات التي على الإدارة السورية الجديدة التعامل معها، ليس بحذر وحسب، بل وبحسم أيضاً، بالنظر إلى ما ينطوي عليه هذا الملف من مخاطر أكثر مما يتيحه من فرص، ما يضع العلاقة، واستمرارها، بناءً على المعطيات الراهنة في المشهد السوري، في خانة الأمور الضارّة بالمصلحة الوطنية السورية.

من الخطأ القاتل المراهنة على براغماتية نظام الحكم في روسيا، والركون إلى التحوّل الحاصل في موقفه، والذي جرى تفسيره نوعاً من العقلانية واستيعاب التطورات، قياساً بالموقف الإيراني الذي رفض التسليم بالخسارة، وذهب إلى حد إعلان العداء للحكام الجدد في سورية، لا شك أن عامل الخبرة مع الأزمات الدولية هو الذي أظهر هذا الفارق بين ردّات الفعل الروسية والإيرانية، كما أن روسيا ما زال لديها أوراق قوّة في سورية ستعمل على تثميرها، بعكس إيران التي بدا أنها بنت مجداً على الرمال ضاع مع هبوب الريح السورية.

لقد صمّمت موسكو موقفها بناء على تقدير موقف عسكري توصّل إلى أنه ليس من الممكن إنقاذ نظام الأسد، بل استمرّت القوّات الروسية بقصف أرتال قوات المعارضة حتى وصولها إلى حمص، أي أن روسيا بذلت كل ما في وسعها لكسر قوات المعارضة ولم تتخلّ عن موقفها إلا لأنها أدركت حدود قدرتها واستحالة تغيير الوضع العسكري.

غير معروف حتى اللحظة، عدد ضباط الأسد الذين جرى تهريبهم من قاعدة حميميم إلى الأراضي الروسية، إنما المؤكّد أن جميعهم من الوزن الثقيل، والذين شكلوا مفاتيح منظومة الأسد الأمنية والعسكرية، وهم أنفسهم من تولوا ارتكاب الجرائم وقمع الثورة وزعزعة الأمن الإقليمي، حتى ما قبل سنوات اشتعال الثورة.

غير معروف حتى اللحظة، عدد ضباط الأسد الذين جرى تهريبهم من قاعدة حميميم إلى الأراضي الروسية، إنما المؤكّد أن جميعهم من الوزن الثقيل

لماذا حرصت روسيا على أخذهم؟ كان من الممكن الاكتفاء بالدائرة الضيقة لبشّار الأسد، بمعنى عائلته الصغيرة، إذا أرادت إثبات أنها لا تترُك حلفاءها حتى في أشد الظروف قساوة، لكن أن تشحن أغلب قيادة الأجهزة والضباط، أو توعز إلى خليفة حفتر أن يستقبل الباقين منهم، فهذا ما يطرح السؤال عن النيات الخفية لروسيا، وما إذا كانت ستوظّف هؤلاء في مشروع ما في سورية؟

جاء الجواب من صحيفة Pravda.ru الروسية، كما ترجمها المختصّ في الشأن الروسي، بسام المقداد، في موقع المدن، من أن موسكو ستعود إلى سورية، بعد أن تنتهي من الحرب في أوكرانيا. وإلى ذلك الحين، لن تتنازل عن قواعدها في سورية، ولن تسلم بشّار الأسد، ولن تعترف بالأخطاء، وحسب الصحيفة؛ فالمعركة من أجل سورية كانت ضرورية في العام 2015 وفازت بها روسيا ضد تركيا والولايات المتحدة، لكن المركز الجيو سياسي للصراع انتقل الآن إلى أوكرانيا، لذا يمكن لسورية الانتظار.

ما ورد في مقال الصحيفة، ليس وجهة نظر، بل ترجمة حرفية لما تفكّر به القيادة الروسية، وستناور موسكو في المرحلة المقبلة القيادة السورية الجديدة، وستدخل معها في مفاوضات وتفصيلات معقدة وروتينية، وتستخدم أساليب إغرائية لتطمئن دمشق، من نوع أنها قد تكون مصدراً تسليحياً للجيش السوري الجديد، لأن الدول الغربية ستمتنع عن تقديم السلاح تحت ضغط إسرائيل، وستكون سندا لدمشق في مجلس الأمن، إذا فكّر أي طرف غربي استصدار قرارات ضد القيادة الجديدة بذريعة موقفها من الأقليات أو المرأة، بل قد تتذاكى القيادة السورية الجديدة نفسها وتستخدم روسيا للضغط على الغرب والتلويح بوجود بديل لدفع عواصم الغرب إلى تخفيف اشتراطاتها على القيادة السورية.

تنتظر روسيا اللحظة المناسبة لتغرس أنيابها وتبث سمومها

ستفعل روسيا ذلك كله في إطار خطة ممنهجة واستراتيجية تهدف إلى استعادة سيطرتها على سورية، ستنتظر تخفيف الضغط عليها في أوكرانيا، وهو أمر قد يتحقّق بعد أشهر قريبة، ثم تلملم أوراقها في سورية، حيث لديها شبكات عديدة وآلاف العناصر الذين درّبتهم، وثمّة احتمال أن هناك قناة اتصال بين هؤلاء وضباط بشار الأسد في موسكو أو بنغازي بأن يلملموا صفوفهم ويتجهزوا للأيام المقبلة، ويصمدوا قدر الإمكان في وجه الحملات التي تقوم بها دمشق حتى يحين موعد بدء العمل.

لا تحتاج المسألة إلى عملية عصف ذهني لتصوّر هذا السيناريو، إذ لن تسلّم روسيا ببساطة بهزيمتها في سورية، فبالنسبة لها تشكّل السيطرة على سورية مكوّناً أساسياً في مشروعها للعودة فاعلاً عالميا مرموقاً، وبسيطرتها على سورية تستطيع التحكّم بتفاعلات الشرق الأوسط، المنطقة التي يُعاد تشكيلها، ومن دون هذا الدور ستفقد روسيا فاعليتها وتأثيرها على المستوى العالمي.

روسيا في سورية أفعى في العُبّ، تنتظر اللحظة المناسبة لتغرس أنيابها وتبث سمومها، ويجب عدم اللعب مع هذا الخطر أو منحه هامشاً من الزمن لإعادة ترتيب الأوراق، ليس لدى روسيا ما تمنحه لسورية الجديدة سوى الشر ولا ينبغي انتظار وقوعه، ولا سيما أن غالبية الرأي العام السوري ضد الوجود الروسي، وهي ورقة يمكن أن تستخدمها القيادة الجديدة وتطلب من روسيا الخروج فوراً من الأراضي السورية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى