عن البرد الذي طحن عظامنا

آلاء عوض

لفتني مشهدٌ لأمٍّ وطفلتها الهولندية وهما تخرجان من مدرسة لتعليم السباحة، مرتديتين ملابس خفيفة لا تتناسب مع برودة الطقس، إذ كانت درجة الحرارة آنذاك تحت الصفر، وبدأت الثلوج بالتساقط.
بدت الأم بلباس رياضي رقيق، بينما كانت الطفلة، التي لا يتجاوز عمرها ستّ سنوات، ترتدي بيجامة قطنية منزلية، وصندلاً صيفياً في قدميها. كانت تقفز تحت الثلج بحماس، متوردة الخدين من أثر السباحة واللعب، ثم ما لبثت أن ركبت دراجتها مع والدتها للعودة إلى المنزل القريب.
في تلك اللحظة، راودني تساؤل: لماذا لا يشعرون بالبرد كما نشعر به نحن؟ لماذا نخشاه نحن السوريين ونرتعب من الثلج، بينما يواجهونه ببساطة ودون وجل أو تردّد؟ تذكرت أمي وهي توبخني في أيام الشتاء، تجبرني على ارتداء مزيد من الملابس، وتحظر علينا اللعب بالثلج في تلك المرات النادرة التي شهدنا فيها تساقطه قبل الشتات.
لاحقاً، أدركتُ أن البرد ليس مجرد إحساس جسدي، بل هو حالة نفسية، وهمٌ يتضخم بالخوف منه وعجزنا عن مقاومته. ربما لا يكون الأمر أن هؤلاء الأوروبيين أقوى منا أو أكثر قدرة على تحمّل البرد، بل هم فقط يفهمونه أكثر. يواجهونه في ظلّ ظروف ميسّرة؛ ستعود تلك الأم وابنتها إلى منزلهما الدافئ، ستخلعان ملابسهما المبللة لتُلقى مباشرة في الغسالة والنشافة، وكأن شيئًا لم يكن. في المقابل، كانت أمهاتنا في سوريا يتكبدن عناء الغسيل والتنشيف، ويكافحن لتأمين ثمن الوقود أو الكهرباء، هذا في زمنٍ لم تكن فيه الكهرباء “عزيزة” كما هي اليوم.
أما الآن، فقد أصبح البرد إحدى أعظم مصائب السوريين. لم يعد مجرّد إحساسٍ عابر، بل صار برداً متجذراً في القلوب قبل الأجساد. جمّد أطرافهم وأرواحهم، زاد من قهرهم وعجزهم، حتى بات الشعور بالبرد ليس مجرّد برودةٍ فيزيائية، بل حالة من الجمود النفسي والوجداني. كيف لا، وهو يذكرهم في كل لحظة بحقيقة واقعهم؛ حيث لا كهرباء، ولا وقود، ولا قدرة على مقاومة صقيع الفقر والحرمان؟
بينما تتفاقم أزمة الكهرباء، يتلاشى الأمل في حلولٍ قريبة، ويغدو البرد رمزاً لكل شيء مفقودٍ في سوريا؛ للحياة الكريمة التي أصبحت حلمًا بعيد المنال، وللأمان الذي تبدد مع كل أزمة، وللعدالة التي لم تعد أكثر من وهم. لا أحد يسأل متى ستنتهي هذه المعاناة، لأن الجميع يدرك أن الأجوبة غائبة كما الكهرباء، والمستقبل غامضٌ كظلام الليل الطويل.
في علم النفس، هناك مفهوم يُعرف بـ “العجز المُكتسب” (Learned Helplessness)، وهو الحالة التي يصل فيها الإنسان إلى القناعة اللاواعية بأن محاولاته للتحسن لن تجدي نفعاً، فيتوقف عن السعي إلى تغيير ظروفه. وهذا تماماً ما يفعله البرد بنا، فهو ليس مجرد معاناة لحظية، بل تجربة ترسّخ في وعينا الجمعي فكرة أننا عاجزون، وأن الوضع لن يتحسن.
مع تكرار هذا الشعور يوماً بعد يوم، يبدأ الدماغ في التكيف مع العجز، وهنا يتحول القلق النشط إلى جمود نفسي. يصبح الشخص أقل رغبة في المحاولة، أكثر تقبلاً للواقع القاسي، بل وأكثر عرضة للاكتئاب والانطواء. فالحرمان المستمر يؤدي إلى تبلد المشاعر، وهذا ما نشهده اليوم في سوريا؛ حيث فقد كثيرٌ من الناس القدرة على التعبير عن غضبهم أو حتى الشكوى. لم يعد هناك طاقة للاحتجاج أو للبحث عن حلول، لأن كل شيء أصبح مجرد “روتين” من الفقدان والتعب والانتظار في طوابير لا تنتهي.
البرد في سوريا لم يعد مجرد فصل عابر، بل أصبح كابوسا متجدّدًا يعمّق جراح شعبٍ أنهكته الحرب وأفقَرته السياسات القمعية. يدفع السوريون ثمن فساد نظام بدّد موارد البلاد على حروبه، تاركاً الملايين يواجهون شتاءً قاسياً بلا أدنى مقومات للحياة.
في كل شتاء، تتكرر المشاهد ذاتها: منازل مظلمة تكسوها البرودة، وأطفال يرتجفون في الزوايا، يبحثون عن أي مصدر للدفء. يضطر البعض إلى حرق الأثاث، بينما يعجز آخرون حتى عن تأمين لقمة تقيهم برداً لا يرحم. ومع استمرار هذه المعاناة، تتعزّز القناعة بأن الأزمة ليست مؤقتة، خاصة مع عودة المازوت إلى الأسواق مقرونة بفقر مدقع، وانقطاع للرواتب، وامتداد الطوابير من محطات الوقود إلى أبواب المصارف. في ظل هذه الظروف، يبدو أن الحلول—إن وُجدت—لن تكون قريبة.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى