
طوال عقود بقي صوت السوريين مكبلاً بأغلال حبسته عن الفضاء السياسي، حتى اندلاع الثورة التي أعادت إليه الحياة فعاد معبراً عن رغبات السوريين وتطلعاتهم.
ربما كان ذلك قدر الشعوب على اختلاف تجربتها وجغرافياتها، إذ يبدو أن حرية التعبير تطورت بشكل مختلف في كل دولة بناءً على تاريخها السياسي والثقافي، ففي فرنسا على سبيل المثال تعود جذور حرية التعبير إلى الثورة الفرنسية (1789)، حيث أُعلن عنها في إعلان حقوق الإنسان والمواطن، في حين عرف القرن التاسع عشر رقابة متذبذبة، خاصة خلال حكم نابليون والملكيات اللاحقة، حتى القرن العشرين، حيث شهدت حرية الصحافة توسعاً.
من جهة أخرى ضمنت الولايات المتحدة حرية التعبير بموجب التعديل الأول للدستور الأميركي (1791) وعلى الرغم من ذلك، فقد شهدت فترة الخمسينات قيوداً شديدة على التعبير السياسي، على خلاف العصر الحديث حيث أصبحت حماية حرية التعبير واسعة، لكن ما يزال هناك جدل حول علاقة خطاب الكراهية والتضليل الإعلامي بحرية التعبير.
في بريطانيا كانت هناك رقابة صارمة على المطبوعات في العصور الوسطى، وبدأت الصحافة في الحصول على حريتها في القرن السابع عشر، وبقيت كذلك حتى عام 1952 حيث صدرت قوانين مثل قانون التشهير وقوانين تحد من خطاب الكراهية، حيث أسست لتوازن بين حرية التعبير وحماية الأفراد من الأخبار الزائفة والتشهير.
بعد سقوط النظام حدث في سوريا ما يشبه انفجارا هائلا في حرية التعبير، وباتت الساحة السورية أرضاً خصبة، ضمت فيها أصوات السوريين ممن عبروا بالرفض والرفض المبالغ فيه والاستنكار، أو التأييد والتأييد المبالغ فيه في بعض الأحيان أيضاً، وحطم السوريون جدار الصمت الذي بناه الاستبداد الأسدي.
أما في شرقنا البائس فقد تأثرت حرية التعبير في كثير من الدول العربية بالاستعمار ثم بالأنظمة الحاكمة بعد الاستقلال، وفي بعض الدول توجد رقابة شديدة على الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، بينما تشهد دول أخرى انفتاحاً جزئياً.
شهدت حرية التعبير في سوريا تحولات كبيرة عبر التاريخ، متأثرة بالأنظمة السياسية المختلفة والأوضاع الأمنية، في فترة الانتداب الفرنسي شهدت البلاد بعض الانفتاح الصحافي، لكن السلطات الفرنسية قيدت حرية التعبير، خاصة ضد المعارضين للاستعمار، أما بعد الاستقلال، فقد تمتعت سوريا بفترة من الانفتاح النسبي، حيث نشطت الأحزاب السياسية والصحافة المستقلة، وفي الخمسينيات، شهدت البلاد تعددية حزبية وحراكاً سياسياً، لكن الانقلابات العسكرية المتتالية أثرت على استقرار حرية التعبير، حتى وصول حزب البعث إلى السلطة عبر انقلاب عام 1963، الذي فرض قانون الطوارئ الذي قيد حرية التعبير والصحافة، وأصبح الإعلام موجّهاً بالكامل من الدولة، وحظرت الصحف المستقلة وكان أي انتقاد للحكومة يُعتبر جريمة سياسية، مما أدى إلى اعتقالات واسعة للصحفيين والناشطين.
فرضت الدولة رقابة مشددة على الصحافة منذ حكم الأسد الأب، ولم يُسمح بأي إعلام مستقل لم يكن مسموحاً بانتقاد الحكومة أو الحزب أو الجيش، وأي معارضة كانت تُعامل على أنها “خيانة وطنية” وكانت وسائل الإعلام مملوكة بالكامل للدولة وتروج للدعاية الرسمية.
مع وصول بشار الأسد إلى الحكم، ساد اعتقاد بأن الانفتاح السياسي قادم، وظهرت بعض المنتديات السياسية لفترة قصيرة، لكنها أُغلقت سريعاً ثم أصبح الفضاء الرقمي متنفساً للمعارضين، لكنه خضع لاحقاً للرقابة والمراقبة المشددة واستمر الوضع السياسي خانقاً حتى اندلاع الثورة السورية وما تبعها من قمع للحريات وأصوات الناشطين حيث اغتيل الفضاء السياسي تماماً، وأصبح الناشطون والصحافيون وكل من يتناول العمل أو الحديث بالشأن العام عرضة للاعتقال والإخفاء.
بعد سقوط النظام حدث في سوريا ما يشبه انفجارا هائلا في حرية التعبير، وباتت الساحة السورية أرضاً خصبة، ضمت فيها أصوات السوريين ممن عبروا بالرفض والرفض المبالغ فيه والاستنكار، أو التأييد والتأييد المبالغ فيه في بعض الأحيان أيضاً، وحطم السوريون جدار الصمت الذي بناه الاستبداد الأسدي، لكن المشكلة التي واجهناها كسوريين أننا لم نتمكن من التواصل بشكل جيد بعضنا مع البعض الآخر وهو جزء من التركة الثقيلة التي خلفها النظام، تلك التركة التي لم تسمح لنا بالحوار والتعارف بشكل جيد أو تقبل بعضنا البعض.
ظهرت نتائج القمع السياسي الذي مورس على السوريين لعقود مضت بتطرف الآراء السياسية وعدم واقعيتها، وهو أمر لا بد من تفهمه بسبب غياب الحياة السياسية في سوريا وعدم تمكن السوريين من مراكمة الوعي السياسي اللازم لإدارة حوار بنّاء بعد زوال سفاح دمشق.
من الواضح اليوم وجود جهود لإعادة بناء الحياة السياسية وتعزيز حرية التعبير في سوريا، لكن التحديات الأمنية والسياسية تشكل عقبات أمام تحقيق هذه الأهداف، ويبدو أن الجهد لا يكفي وحده بل يتطلب الأمر التزاماً حقيقياً من جميع الأطراف لضمان انتقال سلمي وبناء دولة تحترم حقوق مواطنيها.
يبدو المناخ اليوم مؤاتياً لخلق مناخ سياسي خالص، ربما قد تشوبه بعض المنغصات بحكم حداثة عهدنا السياسي وحداثة الظروف المحيطة، وقد يصبح أكثر فاعلية في حال توافق السوريون على دستور يضمن الحريات الأساسية ويكفلها للجميع، وحرص السوريون على إنشاء مؤسسات قضائية مستقلة تحمي حرية التعبير والصحافة، والعمل على وجود إعلام مستقل وصحافة غير خاضعة لرقابة الدولة.
السوريون اليوم في ذروة القدرة على التعبير عن الأفكار والهواجس والمخاوف والأمنيات والرغبات، استطاعوا بمدة قياسية التحول من الصمت المطبق إلى الطرف النقيض تماماً، وتمكنوا اليوم من أن يكونوا مراقبين وناقدين للوضع الحالي وحراساً لما أنجزته الثورة وهي المهمة الأصعب في المرحلة القادمة.
ماذا يعني هذا للسوريين؟
يعني طوي صفحة الماضي الأسدية إلى غير رجعة، فإمكانية انتقاد الحكومة من دون خوف من الاعتقال أو التعذيب وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وإلغاء القوانين القمعية وحرية تأسيس أحزاب سياسية وصحف وقنوات إعلامية مستقلة، ووجود انفتاح ثقافي وإعلامي سوف يخلق حالة سياسية جديدة ستضيف إلى صوت السوريين ميزة صناعة الرأي العام والتأثير به ومن خلاله، مع أهمية مراعاة وجود قوانين توازن بين حرية التعبير وحماية الأفراد من الأخبار الزائفة والتشهير.
لا يتوافق السوريون اليوم على صحة الإجراءات التي تتبعها الحكومة في كثير من الأمور والتفصيلات، وهو أمر غير مطلوب أصلاً، فمن الضروري وجود حالة الاختلاف في الآراء السياسية والتمتع بامتيازات الفضاء السياسي الحر.
قد يبدو ذلك على أنه أمر سلبي لكن ذلك مرده إلى أنه أمر جديد على الحالة السورية تماماً، علاوة على أن هذا الاختلاف صحي للغاية، وهو أمر ليس على السوريين القلق بخصوصه بل على العكس يجب ألا نساوم بشأنه، لأنه الفضاء الوحيد الذي ممكن أن يُعوّل عليه في تصحيح المسارات السياسية ومنع التجاوزات والشطط في بعض الإجراءات.
ولأن الأحوال لا تبدو أنها تسير بالسرعة التي يتمناها السوريون اليوم وهو أمر متوقع بالنظر إلى الواقع الذي تُركت فيه سوريا متهالكة ومتعبة للغاية، يبدو أن تطبيق خطة إصلاح تدريجي هو الأكثر واقعية، لكن ذلك لا يعني أن يقبل السوريون بأقل من بناء مؤسسات ديمقراطية، ومحاسبة المسؤولين عن القمع، مما يخلق بيئة سياسية جديدة، لتكون بداية تدريجية لحرية التعبير، وظهور إعلام مستقل، وبالتالي انتخابات حرة تدريجية تتيح تعددية سياسية مع مرور الوقت.
يبدو السوريون اليوم في ذروة القدرة على التعبير عن الأفكار والهواجس والمخاوف والأمنيات والرغبات، استطاعوا بمدة قياسية التحول من الصمت المطبق إلى الطرف النقيض تماماً، وتمكنوا اليوم من أن يكونوا مراقبين وناقدين للوضع الحالي وحراساً لما أنجزته الثورة وهي المهمة الأصعب في المرحلة القادمة، وإذا ما افترضنا في أسوأ الأحوال أن الأمور قد تذهب باتجاه مختلف عما ثاروا من أجل تحقيقه، فهم وحدهم القادرون على تصويب المسار وإعادة الأمور إلى نصابها، لأنهم لن يسمحوا لأحد بسرقة صوتهم الذي امتلكوه بعد عقود من كمّ الأفواه، فالسوريون اليوم لا يعوّلون على مجتمع دولي ولا على سلطة جديدة بقدر ما يعولون على صوتهم الحرّ، إنه المساحة الوحيدة التي لا يستطيع أحد أن يضيقها عليهم بعد اليوم.
المصدر: تلفزيون سوريا